محمد أبوالفضل يكتب:
بانتظار مبعوث أممي جديد لتفكيك عقد الأزمة الليبية
أكدت التحركات التي قام بها غسان سلامة، المبعوث الأممي إلى ليبيا، على مدار الأشهر الماضية، أنه لم يستوعب بعد طبيعة الأزمة، ويفتقر إلى الحد الأدنى من الإلمام بمكوناتها، ولم يعد محايدا تماما في نظر الكثير من الدوائر الليبية والإقليمية. وزادت مؤخرا التلميحات إلى تغييره، بعد أن ارتكب أخطاء جمة، وباتت أطروحاته أسيرة حسابات سياسية ضيقة تصب لصالح جماعات وتنظيمات محددة وبعيدة تماما عن مصلحة الدولة الليبية.
تلاشى التفاؤل الذي صاحب تعيينه منذ عامين بحكم جذوره العربية (لبنان) مبكرا، ليس لطبيعة التعقيدات التي تموج بها الأزمة، بل لأنه تعامل معها بانتقائية ولم يتخذ مسافة سياسية واحدة من الجميع، وصبت الكثير من تصوراته في جعبة قوى معينة، في مقدمتها التيار الإسلامي والكتائب المسلحة، اللذين أجادا بعضهما اللعب على المناطق الإنسانية في عقل غسان سلامة.
ازداد الموقف حرجا عندما بدا المبعوث الأممي واثقا أكثر من اللازم في منظمة الحوار الإنساني، والمعروفة بتوجهاتها المحابية لجماعة الإخوان. وأوكل لها مهمة ترتيب العديد من الاجتماعات والحوارات والمناقشات المجتمعية، دون أن يلتفت إلى جذورها وعلاقاتها المتداخلة مع التنظيمات المتطرفة التي تطمح إلى وضع يدها على السلطة بأي ثمن.
كانت الإحاطات المتتالية التي قدّمها سلامة أمام مجلس الأمن كاشفة لكثير من الأفكار التي تبناها الرجل، لأنها أخفت حقائق مهمة عما يجري في البلاد، ومن تسببوا في تعميق الأزمة. وحرصت على توجيه أصابع الاتهام إلى جهات بعيدة عنهم، وتجاهل في أوقات كثيرة الأرقام المفزعة للقتلى والمصابين والأزمات الاقتصادية والاجتماعية على يد العصابات المسلحة ومن تحالفوا معها في الطبقة السياسية الليبية.
أظهر الرجل، الذي أتيحت له مجموعة من الفرص، تعاطفا نادرا مع قوى وأبدى صرامة وشراسة سياسية مع أخرى، وعبر في مجمل خطاباته المعلنة عن إفلاس كبير، وخيبة آمل في حلحلة الأزمة خطوة واحدة للأمام، وقذف بكل الأوراق على ملتقيات ولقاءات وندوات، وهو متأكد أن الرهان عليها فقير، ورضخ لسحر المؤتمرات باعتبارها قادرة على حل جميع العقد السياسية والأمنية.
تساؤلات حرجة
دعنا من المواعيد التي ضربت لتحريك العملية السياسية ولم يتم تنفيذها، ودعنا من الغموض العام الذي يحيط بغالبية تحركاته، ونركز على الأهداف المرجوة منها، فهل هو المخول الوحيد برسم الخارطة السياسية للدولة الليبية أم هدفه تقديم كتيبة جديدة للحكم في البلاد. وبعد فشل انعقاد المؤتمر الجامع في أبريل الماضي لم يقدم خطة بديلة حتى الآن، وحمّل الإخفاقات على كاهل الجيش الليبي دون أن ينتبه لطبيعة المهمة الدقيقة التي يقوم بها في طرابلس.
لا تقل هذه النوعية من الأسئلة أهمية عن الأسباب الخفية التي تقف وراء محاباة سلامة للمجلس الرئاسي ومكونات حكومة الوفاق وفايز السراج الذي أصبح تميمته التي لا تفارقه في السراء والضراء، بينما يوجه انتقادات لاذعة إلى المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، وينكر دوره في توفير الأمن والاستقرار في الشرق والجنوب، ويحرّض عليه المجتمع الدولي والقبائل والكتل المجتمعية المختلفة في العملية الجارية لتحرير طرابلس.
تجاوزت الضربات السياسية التي وجهها سلامة للجيش الليبي غضبه الشخصي من المشير حفتر، ووصلت إلى حصر مهمة الأمم المتحدة في توفير الأمن للعاصمة فقط، فقد انغمس في ترتيباتها طويلا بلا فائدة، ولم يتغافل الإعلاء من قيمة الكتائب المسلحة فيها، مع أنه يعلم حجم الجرائم التي ارتكبتها ومن وقفوا خلفها. فأيهما أولى بالتصدي، الجيش النظامي أم عصابات النهب والسلب؟
تتعمد الخطوات التي قام بها تهميش قطاعات ليبية مؤثرة لضمان تصاعد دور فئات أخرى وجدت في الانفلات الحاصل وتجذير الفوضى وسيلة جيدة للحصول على مكاسب كبيرة، وتريد ترسيم خارطة سياسية وأمنية تمنحها قوة إضافية، ولقيت في سلامة مغنما مريحا. وسواء كان يقوم بهذا الدور عن قصد أم جهل، ففي الحالتين دخلت ليبيا في عهده نفقا أشد غموضا مما كانت عليه في عهد سلفه جوناثان واينر.
حرضت الانتكاسات المتلاحقة شريحة كبيرة من الليبيين الصامتين، وجعلتهم أشد توجسا لكل تحرك يقوم به المبعوث الأممي، ولكل مخاطبة يقوم بها لمجلس الأمن، ودفعتهم إلى الإقدام على تصرفات ربما لم يشهدها مبعوث دولي آخر، حيث جرى توقيع عريضة من عدد كبير من المواطنين وجهت إلى أنطونيو غوتيريس السكرتير العام للأمم المتحدة حول سلبيات بعثته في ليبيا. وقدمت شخصيات سياسية بارزة مذكرات مماثلة لمنظمات دولية مختلفة، بينها مجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية.
أفقدت التناقضات التي ظهرت على تحركات المبعوث الأممي ثقة الكثير من القوى الوطنية في حياد خطابه المتجه نحو الميليشيات، فتارة يستهدف بعض قادتها ويطالب بمعاقبتها، وأخرى يغض الطرف عنها، ويحملها المسؤولية في وقت، ويسند لها مهام أمنية في وقت، وينصح بتغيير الجسم السياسي الحاكم (المجلس الرئاسي)، ثم يدعمه أمام مجلس الأمن، ويلوح إلى مخاطر التدخلات الخارجية، ولم يشر إلى اسم دولة واحدة تعبث بالأزمة الليبية، بينما عناوين الأسلحة والمعدات القادمة عبر البحر المتوسط لم تعد خافية على كثيرين.
لم يتوقف المبعوث الأممي عند السفن التركية التي تم ضبطها، ولم يحرك ساكنا أمام الفضائح التي تلاحق أنقرة في ليبيا من وراء احتضانها الكثير من القيادات الإسلامية التي تلعب دورا مدمرا في البلاد، وكلها علامات قدمت غطاء سياسيا لمن يريدون تدشين ترتيبات تتوافق مع مصالحهم، وحرضتهم على مواصلة التحركات، وبدا سلامة لم ير شيئا.
صفات المبعوث الجديد
تبدو النتائج التي يحققها مبعوثو الأمم المتحدة في أزمات المنطقة محدودة للغاية، وتزداد ضآلتها كلما كان هذا المبعوث ينتمي إلى دولة عربية، لأنه يتصرف كأن على رأسه جرح، ويجتهد في تأكيد عدم انحيازه إلى جذوره، وتمثل الجنسية المزدوجة لسلامة (اللبنانية والفرنسية) أزمة، لأن كثيرين تعاملوا معه بمنطق الأمين على المصالح الغربية في ليبيا.
أدى الضعف الذي منيت به مهمة الأمم المتحدة في ليبيا إلى جعل البعض يكفرون بالمبعوثين الأمميين، وغسان سلامة كانت له تجربة سابقة مخيّبة في العراق، ويتمنون أن يكون رديفه الجديد، أجنبيا أو عربيا، ملما بتفاصيل الأزمة، بما يليق بالمنظمة الدولية التي لا تزال الشعوب الفقيرة ترى فيها ملاذا للإنصاف.
استهلك سلامة جميع الفرص التي منحت له، وأخفق في وضع يده على أصل الداء، وهو الكتائب المسلحة والمتطرفون والمرتزقة والدول التي تدعمهم، ولا توجد رفاهية في الوقت كي يستكمل مسيرته الخاطئة، وهناك استعدادات لاستبداله، وإطلاق عملية سياسية جديدة من رحم المستجدات الراهنة في طرابلس.
على المبعوث المنتظر مراعاة خصوصية التركيبة الاجتماعية في ليبيا، والتي لا تفلح معها المحاصصة الطائفية التي اجتهد سلامة في تحويلها إلى أمر واقع، حتى لو تناقضت مع البيئة المحلية، وعليه منح الوزن القبلي ثقله المحترم، وضرورة أن تكون هناك مؤسسات أمنية نظامية قوية (عسكرية وشرطية) تستطيع ضبط الأمور الصعبة، وكبح الميليشيات، ووقف مظاهر الفوضى في طرابلس، ومواجهة العصابات المسلحة والجماعات الإرهابية.
مطلوب من المبعوث القادم أن يكون حريصا على حل الأزمة وليس التلاعب بها وتعويمها وتمديد عمرها لصالح فئة معينة، وعليه الابتعاد عن القوى التي تحمل أفكارا مؤدلجة وتسعى إلى فرض هيمنتها على البلاد، وتجنب أخطاء سلفه في محاباة قوى على حساب أخرى، وطرح تصورات تتناسب مع الأجواء العامة، ويستفيد من التراكمات المجتمعية ويعرف قوة تأثيرها محليا.
نعم التقديرات الخارجية لها دور حيوي، لذلك على المبعوث الجديد الاحتكام لإرادة المجتمع الدولي وعدم الانصياع وراء نفوذ فصيل يعمل لحساب تركيا وقطر وإيران، لأن الطريق الذي رسمه غسان سلامة أصاب الكثير من محددات الأزمة الواضحة بالتشوه، وجعل إعادة الحياة لفواصلها الرئيسية عملية مربكة.
على المبعوث الأممي التيقن أن لدى الليبيين الحقيقيين حلولا مبدعة يمكن أن تكون ناجعة، وتوفر قدرا كبيرا من الجهود التي تاهت وسط الزحام والتباديل المرهقة. فقد أثبتت التطورات الأخيرة أن تمكين الإسلام السياسي في ليبيا عملية فاشلة، وأصبحت تجابه بمصدات إقليمية ودولية صلبة، لأنها الباب الملكي الذي يتسرب منه الإرهابيون.