محمد أبوالفضل يكتب:
الكرة في ملعب السودانيين
أحد الأخطاء التي تقع فيها بعض الشعوب أنها تمنح الجهات الخارجية قوة تفوق عشرات المرات قوتها الحقيقية. ترى فيها الآمر الناهي القادر على ترجيح كفة جماعة على أخرى في الحكم أو المعارضة. تتيبس الدماء في العروق في انتظار القرار الفصل، كأن القوى الداخلية عقمت عن تحريك المياه في بلادها، وسلمت بأن الانتصار أو الانكسار يأتي من الخارج.
تلعب الكثير من الدوائر الخارجية أدوارا معقدة ومركبة ومتعددة، وتساهم بأشكال مختلفة في دعم جماعة على حساب أخرى عندما تكون الرؤية واضحة. ولأن غالبية الأزمات المنتشرة في المنطقة تتسم بالغموض والالتباس والاستعداد للانفتاح على مسارات متناقضة باتت التقديرات الخارجية مرتبكة وغير محددة. ويلجأ أصحابها إلى محاولة الامساك بعدد من خيوط اللعبة عبر فتح حوارات مع شخصيات وأحزاب وتنظيمات في الحكم والمعارضة.
ظهرت معالم المعادلة الفضفاضة في تطورات الأزمة في السودان، فقد حظي المجلس العسكري الانتقالي بقبول قوى كثيرة كانت تدعي أنها ترفض تدخلات الجيوش في الأمور السياسية، ووجهت تحذيرات صارمة بعد عزل الرئيس عمر البشير، عقب ثورة شعبية رافضة لاستمرار حكمه.
تلاطمت هنا المياه وتغيرت الوجوه، لكنها حافظت على سلطة المجلس العسكري، ومنحته مزايا عدة لتمكينه من ترتيب أوضاع المرحلة الانتقالية والوعد بتسليم السلطة لحكومة مدنية. وهي صيغة تركت تفاصيلها للشعب السوداني.
فتحت القوى الخارجية ذاتها اتصالات ساخنة مع تحالف الحرية والتغيير، باعتباره الجبهة المقابلة، وربما فتحت قنوات خلفية مع أحزاب وحركات معارضة أخرى، لأن السيولة في السودان قد تجعل الطريق ممهدا أمام أي جماعة للقفز على السلطة بطريقة شرعية من خلال الانتخابات مثلا، أو غير شرعية من خلال انقلابات وثورات مضادة. وفي جميع الحالات فرضت الهشاشة الظاهرة في التوازنات عدم وضع قوى كثيرة رهاناتها على جهة واحدة.
لم تحسن قوى الحرية والتغيير قراءة تفاصيل المشهد، وتصورت أن مجرد رفع لافتات للحكم المدني يكفي لجذب تعاطف داخلي معها، ويبرر جلب مساندات خارجية حاسمة، تجبر المجلس العسكري على التسليم بمطالب المعتصمين. وتجاهلت أن الصفوف الداخلية منقسمة، وهناك أحزاب تقليدية احتفظت لنفسها بمسافة بعيدة عنها.
كما أن الموقف الخارجي متذبذب، لكنه في النهاية لن يميل صراحة لصالح طرف أو يقدم دعما ملموسا لطرف على حساب آخر، وكل ما يملكه إدانة وشجب وخلافه عندما تسيل الدماء على الأرض أو يرتكب طرفا حماقة عنف يجبر البعض عن عدم التمسك بصمتهم.
حدث شيء من هذا القبيل، صباح الاثنين الماضي، عندما قامت قوات الدعم السريع بفض الاعتصام المستمر منذ حوالي شهرين أمام مقر وزارة الدفاع بالخرطوم، فبعد وقوع عشرات الضحايا توالت البيانات الرافضة للخطوة، ودعت بعض الدول لاجتماع عاجل في مجلس الأمن، وتسابقت منظمات إقليمية في توجيه الخطب والتنديد بالاعتداء على المدنيين.
كسب تحالف الحرية والتغيير تعاطفا ملحوظا، لكنه خسر مكانا رمزيا مهما، وهو مقر الاعتصام، قبل أن ينتهي من حسم المشاورات مع المجلس العسكري. ربِما تكون الخسارة جاءت مصحوبة بعنف مفرط ووقعت مبكرا وقبل أن تكون قيادة التحالف مستعدة للتعامل مع تداعياتها، لكنها حدثت كي تعيد المعارضة النظر في الطريق الذي تسير فيه، فلا يوجد اعتصام مدى الحياة، ولا توجد جهة تتفاوض وفِي يدها ورقة واحدة وتفتقر للبدائل.
يرتهن التعويل على دعم الجهات الخارجية لشعارات الدولة المدنية بما تحققه من مصالح. وأثبتت التطورات الإقليمية أن هناك تأييدا متصاعدا لحكم المؤسسات العسكرية، لأن قوى كثيرة في العالم تنظر لها على أنها قادرة على التعامل مع التحديات الإقليمية، ولديها مرونة في التكيف مع المعطيات الدولية، فقد انتهت مرحلة الشعارات الزاعقة وتقدمت التفاهمات والقواسم والمصالح المشتركة، وهو ما يجعل إمكانية التغيير متوقعة في أي لحظة، لأن المنافع هي التي تحدث الفارق وتحدد الانحياز لطرف ونبذ آخر.
باتت الكرة في ملعب القوى السودانية لا غيرها، ومهما بلغ حجم التأثيرات لن تتورط قوة إقليمية أو دولية مباشرة في الأزمة مباشرة. وسوف يظل فك الشفرة في الداخل، ومن يتطلعون للحسم بعيدا عنه سوف يتعرضون لخسائر كبيرة.
فِي ظل المراوحة الحالية وعدم استبعاد حدوث مفاجآت في الأزمة لن تستطيع دولة الاقدام على تأييد طرف والوقوف في وجه آخر يوضوح، فكل الاحتمالات واردة للتغيير، ما يفرض عدم المجازفة لتبني رؤية أحادية.
على تحالف الحرية والتغيير عدم الانسياق وراء المفردات العقيمة والتعامل بواقعية مع الأزمة، لأن هناك متربصين كثر يريدون كسر المزيد من أجنحته المؤثرة. وبعد فقدان ورقة الاعتصام على القوى الحية فيه إعادة النظر في مسيرته القصيرة واستخلاص العبر. فالقوى الخارجية لن يكون تعاطفها الانساني سباقا على مصالحها الحيوية.
اذا أراد التحالف استكمال طريقه الناصع عليه التحلي بالمرونة اللازمة قبل أن ينفرط عقده، وتستعيد الحركة الإسلامية بريقها، فهي البديل الوحيد الجاهز والمستعد لتقديم التنازلات القاسية للقفز على السلطة، أو على الأقل تليين المواقف الصارمة الرافضة لحضورها السياسي والالتزام بقواعد اللعبة الجديدة.
تستطيع قوى الحرية والتغيير تقديم نموذج سياسي جاد في السودان، إذا راعت التحول الحاصل في موازين القوى. فما قبل فض الاعتصام مختلفا عما بعده. وتحقيق نصف انتصار أفضل من الخروج بهزيمة ساحقة، ولا تنتظر مددا من أي جهة، وعليها الثقة في أنها قادرة على التفاهم مع المجلس العسكري، والوحدة التي بدت عليها طوال شهرين معرضة للاهتزاز، فقد كان مقر الاعتصام صمام أمان، اختفت وراءه الكثير من معالم الانقسام، لأن الكتلة الحرجة فيه، وهي تجمع المهنيين، درجت على التأكيد بعدم انتمائها لأحزاب وقوى سياسية منظمة.
بالتالي على التحالف أن يلملم قواه ويستعيد الكرة أولا قبل بداية الشوط الثاني من المباراة، الذي سيحدد تفوق المجلس العسكري أم قوى الحرية والتغيير، أم تعادلهما في عدد الأهداف. وهي النتيجة المناسبة لحالة السودان، التي ترضي غالبية الأطراف في الداخل والخارج، قبل أن تتدهور الأوضاع.