د. ابراهيم ابراش يكتب:
من نكسة أضاعت الأرض إلى صفقة تضييع الحق
بداية وللتذكير فقط فإن مفردة أو مصطلح (النكسة) نحتها وروجها الإعلام الرسمي العربي وخصوصا المصري لوصف ما جرى في مثل هذا اليوم عام 1967 ،حيث انهزمت الجيوش العربية في مصر وسوريا والأردن أمام الجيش الإسرائيلي الذي باغت هذه الجيوش بعدوان صبيحة الخامس من حزيران/يونيو وكانت النتيجة أن احتلت إسرائيل خلال خمسة أيام سيناء والجولان وبقية فلسطين–قطاع غزة والضفة الغربية.
ولأن الجمهور والعقل السياسي العربي آنذاك كان منتشيا بالخطابات الرنانة التي تهدد إسرائيل بالويل والثبور إن هي اعتدت على أي شبر من الأراضي العربية، مع تضخيم الإعلام العربي من قدرة الجيوش العربية وما تمتلك من صواريخ كالقاهر والظافر يمكنها إزالة إسرائيل من الوجود خلال ساعات، لكل ذلك لم يهضم الإعلام الرسمي العربي هذه الهزيمة وكان من الصعب عليه والمُهين له أن تسمى بالهزيمة، فكانت كلمة النكسة محاولة للتعبير عما جرى من منطلق أن النكسة حالة عابرة أو طارئة وسيستعيد الجسم العربي عافيته!
التفنن في نحت المصطلحات للتحايل على الواقع والهروب من تسمية الأشياء بمسمياتها سمة تميز الخطاب والعقل السياسي العربي دون غيره. ففي عام 1948 تم وصف الهزيمة الشنيعة لسبعة جيوش عربية أمام العصابات الصهيونية بأنها نكبة، والنكبة توحي بأشياء كثيرة مثل أنها قضاء وقدر أو ظرف طارئ لا حيلة على رده، الخ.
وعلى نفس المنوال سُميت الانقلابات العسكرية التي شهدتها الدول العربية ما بعد الاستقلال بالثورات، والأنظمة والأحزاب الدكتاتورية والشمولية بالثورية والتقدمية، وأنظمة الملكيات الوراثية الاستبدادية بالأنظمة المحافظة أو يتم تلبيسها لبوس الدين، وجماعات التخلف والارتزاق باسم الدين بالجماعات الإسلامية، وتم تسمية الفوضى والخراب والإرهاب الإسلاموي بثورات الربيع العربي، والاستسلام للإدارة الامريكية والتطبيع مع إسرائيل بالواقعية والعقلانية والرغبة بالسلام الخ، وكأن العقل السياسي العربي يهرب من الحقيقة والواقع حتى لا تُجرح رومانسيته وبراغماتياته الموهومة والكاذبة والتي تغذيها أيديولوجيات تتفنن في خداع الشعب.
كانت نتيجة النكبة والنكسة أن ضاعت كل فلسطين، 78% في النكبة و22% في النكسة، وما زال الفلسطينيون يعانون من نتائج هزائم الجيوش العربية في فلسطين، ونعتقد لو تُرك الأمر للفلسطينيين ليعتمدوا على أنفسهم في مواجهة العصابات الصهيونية والاستعمار البريطاني منذ ثورة 1936 ولم تتدخل الأنظمة العربية، لكان وضع الفلسطينيين أفضل حالا.
ما بعد نكسة 67 كانت الحرب أو (الانتصار) العظيم في أكتوبر 1973، ودون تجاهل شجاعة وبطولة الجيشين المصري والسوري ومن ساندهما من وحدات عسكرية مغربية وعراقية وفلسطينية، فإن نتائج هذه الحرب لم تُحرِر ما تم فقدانه في نكبة 48 ولا في نكسة 67، وإن كانت مصر استعادت سيناء عام 1982 فإن الشروط التي التزمت بها مصر ومنها توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل شوهت فرحة استعادة سيناء أو جعلت النصر منقوصا. ليس هذا تشكيكا بكل الجيوش والأنظمة العربية التي شاركت في الحرب حيث كان بعضها متواطئا والبعض الآخر صادقا ويملك الإرادة في مواجهة إسرائيل ولكن حساباته كانت خاطئة وغير مدروسة بدقة.
يا ليت الأمر توقف عند النكبة والنكسة، بل نشهد في السنوات الأخيرة وكأنه إصرار على أذية الشعب الفلسطيني والمساومة على حقوقه الوطنية التي انتزعها بالنضال والثورة وبدماء أبنائه والأحرار من أبناء الشعوب العربية والإسلامية.
فإذا ما تجاوزنا التطبيع المتدرج مع إسرائيل من طرف بعض الدول العربية فإن ما يجري الإعداد له في صفقة القرن بموافقة وتواطؤ بعض الدول العربية يعتبر نكبة ونكسة لا تقل خطورة عما جرى في حربي 48 و67، فهاتان الحربان أو الهزيمتان وإن أضاعتا أرض فلسطين فإن صفقة القرن وما يتم الإعداد له في مؤتمر المنامة نهاية الشهر هو بمثابة مؤامرة لإضاعة والتفريط بالحقوق الوطنية الفلسطينية، وإضاعة الحق أكثر خطورة من ضياع الأرض.
بالرغم مما جرى في النكبة والنكسة إلا أن الفلسطينيين لم يفقدوا الأمل بالأمة العربية وصدَّقوا اللاءات الثلاثة –لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات مع إسرائيل- في مؤتمر القمة في الخرطوم التي عُقدت على إثر حرب 67، وصدَّقوا وتجاوبوا مع المبادرة العربية للسلام 2002، كما تفاءلوا عندما قال الزعماء العرب في قممهم المتوالية "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون"، كما تفهموا صعوبة الأوضاع وخطورة التحديات التي تواجهها الدول العربية في ظل فوضى ما يسمى الربيع العربي فلم يطلبوا من العرب أن يحرروا فلسطين التي أضاعوها بحروبهم الفاشلة ولا حتى مددا عسكريا، إلا أن ما لا يمكن السكوت عليه أن يساوموا على حقوق الشعب الفلسطيني مقابل الحفاظ على عروشهم وكراسي حكمهم.
كانت الدول العربية سندا للشعب الفلسطيني أما اليوم فالفلسطينيون باتوا يتخوفون مما تدبره لهم بعض الأنظمة العربية بالعلن أو بالخفاء.