محمد أبوالفضل يكتب:
اصطفاف سياسي لدعم الجيش الليبي
لم يدرك فايز السراج رئيس حكومة الوفاق في ليبيا أن قواعد اللعبة السياسية تغيرت، وسيناريو الاعتماد على المتطرفين والمرتزقة والكتائب المسلحة وشق الصفوف القبلية والجهوية لم يعد ينطلي على كثيرين، مع ذلك حاول ايهام العالم أن دوره لم ينته بعد عندما طرح قبل أيام ما أسماه بمبادرة للخروج من الأزمة، أعاد فيها تكرار اسطوانة سابقة تتحدث عن أحلام خيالية وتتجاهل التطورات الكبيرة على الأرض، ونسي أن حكومته أصبحت منزوعة الدسم السياسي والاجتماعي.
كشفت الكثير من الأحداث أن هناك حالة مراجعة إقليمية ودولية إيجابية لما يجري في ليبيا، بدأت تميل إلى التعامل مع الأزمة بصورتها الحقيقية، والتقليل من الانجراف وراء تقديرات سياسية مغلوطة، أفضت حصيلتها إلى تعقيدها، لأنها منحت تيارا معينا مزايا نسبية لا يستحقها، وغضت الطرف عن تصرفات جماعات كل همها منع التقدم على صعيد التسوية السياسية، وتخريب المؤسسات الوطنية بأي وسيلة.
تبدو هناك عملية تقويم كبيرة لكثير من تفاصيل الأزمة من جانب أطراف متباينة، ظهرت معالمها في مباركة دول كبرى للدور الذي يقوم به الجيش الليبي لإنهاء حكم الميلشيات، والتخلص من تداعياته الأمنية والسياسية والاقتصادية.
أراد السراج اختبار جدية هذا التوجه وطرح مبادرته لإنقاذ مصيره، لكنها، من حيث لا يدري، وضعت شعبيته على المحك لدى الدول التي ساندته من قبل، وبدأت تنفض عنه، لأنه بات مهزوزا وأخفق في التعامل مع التطورات السريعة بوطنية مجردة، ويصر على الالتفاف حول الأزمة والتمسك بتحالفات أضرت الشعب الليبي في أرواحه وأمواله وتهدد مستقبله.
فشلت عملية التقليل من دور المؤسسة العسكرية وتجاهل المهام المتعاظمة التي تقوم بها في ليبيا، وبدلا من أن تتحول إلى ذراع قوية لصالح الدولة وأجسامها السياسية تحولت لهدف عند السراج وغسان سلامة رئيس البعثة الأممية، بسبب تصديها لمكافحة الإرهاب والعمل على إنهاء قبضة الميلشيات، التي يمكن أن تكشف تفاصيلها خبايا ربما تؤدي إلى محاكمات دولية لأعضاء في الحكومة وقريبين منها.
حاولت مبادرة السراج الفضفاضة التأثير على التحركات الحثيثة التي تقوم بها قوى وطنية ليبية، والسعي لامتلاك زمام المبادرة من خلال التلميح لإعادة طرح فكرة الملتقى الجامع الذي أجهض قبل تنفيذه، وأصبح عنوانا بغيضا لتمكين تيار الإسلام السياسي، وإقرار واقع مفتعل يعمل لصالحه، وهو ما قضت عليه عملية تحرير طرابلس وروافدها العسكرية والسياسية التي غيرت قواعد المعادلة القديمة، وأعادت الحديث عن المؤسسات النظامية للواجهة كضمانة لوقف هيمنة الكتائب المسلحة.
عقدت قوى وطنية عديدة، تمثل تيارات مختلفة في ليبيا، مؤتمرا موسعا في القاهرة الاثنين الماضي، أرادت من ورائه وضع النقاط أعلى وأسفل الحروف، في مجال تأكيد دعم الجيش الليبي وقائده المشير خليفة حفتر، حيث رفض المؤتمر بلا مواربة مبادرة السراج، وطالب برحيل سلامة، في إشارة تؤكد أن المرحلة المقبلة سوف تشهد تغيرات عملية في التوازنات، ولن تترك الساحة الليبية لتمرح فيها جماعات شاردة.
تكمن أهمية مؤتمر القاهرة، والجهات التي رعته، في القراءة الجيدة للتوقيت، وتعرية حكومة الوفاق والأطراف التي تصمم على تزويدها بأكسجين سياسي فاقدا للمفعول. كما حمل رسائل سياسية تتجاوز مسألة دعم المؤسسة العسكرية والتي لم تعد محل خلاف بين القوى الوطنية.
وحضره ما بين 200-300 قيادة مثلوا فئات واسعة من التكوين السياسي والاجتماعي في الشرق والغرب والجنوب، بما يتجاوز الطيف الضيق الذي دعته سلفا البعثة الأممية لحضور ملتقى أشرفت على الإعداد له منظمة الحوار الانساني الداعمة لمصالح جماعة الإخوان المسلمين.
ولم تتورع بعثة الأمم المتحدة عن ترك الحبل لها لضبط مخرجاته السياسية بصورة تخدم مصالح المتشددين، وهي القشة التي قصمت ظهر غسان سلامة، وجعلته محشورا في الدفاع عن نفسه وتبرئتها من اتهامات تلاحقه في ليبيا وخارجها وتتعلق برعايته الصريحة لتيار عقائدي يريد القبض على السلطة دون اعتبار لطبيعة الشعب الليبي الرافضة له.
قطع المؤتمر الطريق على من يحاولون استمرار ارباك المشهد الليبي وإغراقه في دوامات ومبادرات جديدة محكوم عليها بالاعدام مسبقا، وأكد أن وحدة الدولة وأمنها واستقرارها والحفاظ على تماسك جيشها من المحرمات الأساسية في تحركات الشعب الليبي، ولن تسمح قياداته الوطنية لأي جهة في الداخل أو الخارج العبث بمقدراته.
يحتل القضاء على الإرهابيين والمتطرفين والعصابات المسلحة والداعمين لهم أولوية كبيرة الآن في عقل ووجدان الليبيين، لأنهم السبب الحقيقي في أزمتهم. كما أن المواطنين على يقين أن المؤسسة العسكرية الجهة النظامية الوحيدة التي تستطيع التخلص من هؤلاء وأداء المهمة بحكمة ورشادة، ما يستلزم الوقوف خلفها وتوفير الدعم المعنوي لها، بعد أن وقعت على عاتقها مسئولية خوض غمار حرب وعرة ومتشعبة خاصة بتجفيف منابع الإرهاب.
ظهرت شخصيات كثيرة محسوبة على قوى متنوعة تؤيد الحل الوطني في مؤتمر القاهرة، بجوار شخصيات وازنة من تيارات سياسية واجتماعية أخرى مؤثرة، الأمر الذي يشير إلى وجود دوائر واسعة تؤيد تحركات الجيش في عملية تحرير طرابلس، وأنه يملك ظهيرا شعبيا كبيرا يعمل ضمن منظومة فاعلة على الساحة الليبية، من المستحيل تجاهلها أو القفز عليها لحساب تيار يريد إشاعة الفوضى ويصر على رفع أسهم الميلشيات.
وجهت المؤسسة العسكرية ضربات قاسية للكتائب المسلحة، وقضت على جزء كبير من عناصرها ومعداتها وخطوط تمويلها وامداداتها، واضطر عدد من قادة الميلشيات للهروب خارج البلاد، ما يعني أن معارك طرابلس تمضي تدريجيا في طريقها السليم، وحريصة على تجنب الدخول في المناطق السكنية المزدحمة حفاظا على حياة المواطنين الذين اتخذتهم بعض الميلشيات دروعا بشرية.
يؤدي ارتفاع مستوى الاصطفاف السياسي خلف الجيش الليبي إلى اسكات الأصوات التي شككت فيه، ويحرج حكومة الوفاق التي تتشبث بآمال واهية للاستمرار وهي ناقمة عليه. وقدم مؤتمر القاهرة، وما يتلوه من مؤتمرات داخل ليبيا وخارجها، إشارة قوية أن مكونات الحل الصحيح عند الجهات الوطنية التي تمثل الشعب تمثيلا حقيقيا، ومن يريد تسوية الأزمة عليه ألا يخطيء العنوان مرة أخرى، وتجنب المتآمرين وأصحاب المصالح الضيقة.