محمد أبوالفضل يكتب:

توازنات متغيرة حول 30 يونيو في مصر والسودان

قد يكون التاريخ واحدا بالنسبة للبشر، لكن المعاني والدلالات النهائية حوله تتباين من بلد لآخر، وربما تختلف الرؤية بين القوى السياسية في المكان الواحد، وهو ما جعل أمس الأحد يوما يتجاوز حدود التقييم الماضوي لحدث مهم في كل من مصر والسودان، لأن روافده حاضرة في كثير من الأحداث الحالية، ولن تكون بعيدة عن بعض التطورات في المستقبل.

هناك فئة كبيرة في مصر وخارجها ترى أن 30 يونيو 2013 يوم سقوط جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة بامتياز، ولولا الثورة التي اندلعت شرارتها فيه وشارك فيها الملايين من المواطنين لأحكمت الجماعة قبضتها على مفاصل الأمور في مصر وفي دول كثيرة أخرى، ولتزايدت القوى المتشددة والإرهابية عما هو حاصل من مشاهد مفزعة.

وحتى الفئة القليلة الشريفة التي تغرقنا في توصيفات نائية عن كونها ثورة أو هبّة أو موجة أو انقلابا، تعترف أنها أزاحت عن مصر كابوسا، وهذا لا ينفي وجود شريحة ضئيلة ضدها تتجاوز أنصار الإخوان التقليديين، وتستخدم تفسيرات جذابة تخفي مبررات عقيمة أو ترغب في تصفية حساباتها مع من أنكروا أهمية 25 يناير 2011 كثورة وحيدة في العصر الحديث.

لست معنيا بتقييم أداء الفرق المتصارعة إيجابا أو سلبا على إرث ثورة 30 يونيو أو 25 يناير والاختلاف في تقدير حجم التأثير الذي خلفته كل منهما، فما يهمني هنا أن يوم نهاية شهر يونيو ذاته ينطوي على مضامين متعددة، تتوقف على المربع الذي يرى فيه كل فرد الحدث من زاويته، حسب أفقه السياسي، والمصالح التي جناها أو خسرها منه، لأن معظم من يتصدرون التقييم أصبحوا غير محايدين وغير منصفين.

لم يجتمع السودانيون في السلطة والمعارضة على شيء في الوقت الراهن سوى على تهميش الحركة الإسلامية وفضح الأساليب الملتوية التي تريد النفاذ منها إلى الحكم

مرت الذكرى السادسة لثورة 30 يونيو، وتمكنت الدولة المصرية من تجاوز الكثير من المطبات للحفاظ على الوجود، وتصدت لجانب معتبر من التحديات الأمنية والمصاعب السياسية وقطعت شوطا في طريق الإصلاحات الاقتصادية التي واجهتها، ما جعل شريحة كبيرة من المواطنين ترى في ذلك إنجازا مهما يستحق الاحتفال، فقد كان شبح الانقسام يهدد المداميك الرئيسية في مصر.

بينما رأت مجموعة صغيرة في ذلك اليوم انتكاسة وخرابا وعارا، بذريعة أن هذه الثورة عطلت النمو الديمقراطي في البلاد. وتجاهل المنتمون إلى هذه المجموعة، عن عمد، أن قيمة الديمقراطية لا تزدهر أبدا في مكان تحكمه جماعة إسلامية متطرفة، حتى لو تشدقت ظاهريا بمفردات الكرامة والعدالة والمساواة، وأعلنت عزمها إطلاق الحريات، لأنها ببساطة لن تصمد في الدفاع عنها عند أول محك تتعارض فيه مع مصالحها.

قد تكون 30 يونيو المصرية تعثرت على المستوى السياسي ولم تحقق تطلعات من عولوا عليها في وضع البلاد على الطريق الصحيح، لكن لا أحد يغفل قدرتها على منع انفراط عقد الدولة، والتغلب على حزمة كبيرة من الأزمات التي لم تنته إفرازاتها الأمنية بعد، في ظل ما يدور في بعض دول المنطقة من تطورات تنذر بفوضى عارمة، يمكن أن تلحق أذى بمصر.

إذا كان ذلك اليوم يؤرّخ له في مصر كعلامة على السقوط المدوي لجماعة الإخوان، فإنه في السودان يعد يوما مفصليا أيضا. صعدت فيه الجماعة رسميا إلى سدة الحكم منذ ثلاثة عقود، وانتقلت من الظل إلى الواجهة، واختبرت الحركة الإسلامية كإطار جامع للإخوان وغيرهم من المنتمين للتيار نفسه، وأثبتت هشاشتها وفشلها في أول مواجهة جماهيرية جادة.

قدم حكم الرئيس عمر حسن البشير نموذجا عمليا سيئا للتيار الإسلامي في الأداء، ولم يستطع جلب تعاطف كبير في صفوف السودانيين بدليل تهاويه عند أول انتفاضة جادة. وجعلهم يكفرون باليوم الذي صعد فيه ورفاقه إلى السلطة عام 1989، بالمناورة والمراوغة والتدليس، لذلك حشدت قوى الحرية والتغيير ليكون أمس الأحد، رسالة أساسية لعدم الرغبة في تكرار ما حدث قبل ثلاثين عاما، والتذكير أن الحيل والألاعيب السياسية لم تعد تنطلي على السودانيين.

بصرف النظر عن حجم المليونية التي خرجت أمس الأحد ومن شاركوا ومن رفضوا ومن تحفظوا عليها، وبعيدا عما حدث فيها من ملابسات أمنية، ففيها من العبر والدروس السياسية ما يستحق الوقوف عنده، وأهمها صعوبة أن تأتي الطرق الملتوية بنتائج جيدة، والتيار الإسلامي ليس أمينا في السودان أو غيره، ومن الضروري منع عودته مرة أخرى للحكم، بأي رداء سياسي صريح أو ضمني، باعتباره يتحمل مسؤولية النفق الذي دخلته البلاد، وأعاق تجربة كان من الممكن أن تنضج وتنمو وتتحول إلى نموذج في المنطقة.

مر 30 يونيو المصري بسلام ولم تتجاوز أصوات من أزيحوا عن السلطة، بحكم إرادة الشعب أولا ودعم المؤسسة العسكرية ثانيا، حدود الصياح والضجيج على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الفضائيات التي تبث من تركيا وقطر ومن يدورون في فلكهما عن بعد. كذلك لم نر أشخاصا تملأ أجسادهم وحناجرهم الشوارع والميادين في مصر، كمؤشر عملي على الرفض للثورة والتأييد لحكم الجماعة.

رأينا الآلاف من السودانيين يتضامنون ضد تكرار تجربة البشير والإخوان والإسلاميين، ورفضوا عبارات التهديد والوعيد التي وُجهت إليهم من قبل قوات الأمن، وعزفوا على وتر واحد يؤكد رفض العودة إلى الماضي، والسعي نحو وضع المتاريس السياسية التي تردع من يفكرون في ذلك مستقبلا.

لم يجتمع السودانيون في السلطة والمعارضة على شيء في الوقت الراهن سوى على تهميش الحركة الإسلامية وفضح الأساليب الملتوية التي تريد النفاذ منها إلى الحكم. وهذه من أهم المعارك التي يخوضها تحالف الحرية والتغيير المعارض ضد المجلس العسكري الانتقالي، عندما وجد الأول أن بعضا من سياسات الثاني تبدو متدثرة برداء يحمل بصمات رفاق عمر البشير، أو تصب في صالح ذيوله.

أعلم أن هناك فرقا بين حركة الشارع في مصر ونظيره في السودان، والثاني أكثر عافية سياسية بسبب الفورة الثورية المستمرة، ولا زال مشدودا لأناشيدها العاطفية، وما تنطوي عليه من رغبة كبيرة في الحكم الرشيد. ونتمنى أن يتخطى الشعب السوداني العراقيل المتراكمة وينتبه إلى ممارسات من يريدون جر الدولة إلى نفق مظلم جديد.

إذا كانت حركة قطاعات كبيرة في مصر وافقت على ثورة 30 يونيو في حينه أو بأثر رجعي وتحفظت على بعض مآلاتها السياسية، فإن ثورة 30 يونيو في السودان لا تزال مرفوضة في البداية والنهاية من شريحة واسعة هناك. وفشلت العقود الماضية في تضميد جراحها، بل جعلتها شبحا يخشى كثيرون من مطاردته مرة أخرى في خطوات المجلس العسكري، وهو ما يفسر العقدة التي تلازم حلحلة الأزمة في السودان.

أدى التغير الحاصل في المعادلات الداخلية إلى وضع الحدثين في كفتين متوازنتين، لكن بقي التعامل معهما متقاربا، كملمح رمزي على رفض وجود تيار الإسلام السياسي في الحكم. ربما يكون يوم 30 يونيو المصري تجاوز جزءا كبيرا من تناقضاته المحلية، بينما في السودان يحتاج إلى المزيد من الجهد لتخطي تأثيراته على القوى السياسية.