محمد أبوالفضل يكتب:
حوارات السودان الممتدة
يتعجب كثيرون من عدم توصل الحوار بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير في السودان إلى تفاهمات مشتركة بعد نحو شهرين من عزل الرئيس عمر البشير. ويستنكر هؤلاء عدم قدرة الوساطة الإثيوبية-الأفريقية المشتركة فك ألغاز القضايا الشائكة حتى الآن. لكن يمكن أن يزول العجب والاستنكار بنظرة فاحصة للمصير الذي وصلت إليه أزمات سابقة.
من يعرف السودان وما تمخضت عنه أزماته لن يدهشه عقم المفاوضات بين الطرفين. فما زال الطريق طويلا. هي مباراة مفتوحة لا تشترط وجود منتصر أو مهزوم. ويمكن أن تستمر أشواطا، ولا أحد يستطيع تقدير مدتها بالضبط، لأنها تتداخل فيها عوامل محلية متفرقة، وتتشابك فيها عوامل خارجية مؤثرة. الأمر الذي يفهمه جيدا السودانيون الذين درجوا على أن تكون محادثاتهم ومفاوضاتهم بدون سقف زمني. لا يتعجلون التوصل إلى حلول فورية. كل طرف يبدو مقتنعا أن الزمن سوف يعمل لصالحه.
لم تنغلق قنوات الحوار بين النظام السوداني السابق وقوى المعارضة الشمالية لحظة، على الرغم من دخول الطرفين مواجهات مسلحة. كأن هناك رغبة مشتركة أن يمر كل شيء بالتوازي. التقى قادة الأحزاب مرات عدة مع ممثلين للنظام السوداني في الخرطوم وعواصم إقليمية ولم يتمكنوا من التفاهم على الحد الأدنى لإدارة البلاد.
تشبث كل طرف بأهدافه، وقدمت التنازلات بحساب دقيق وارتبطت دوما بمسار التطورات السياسية والعسكرية، ولم ترتبط بما يجب تقديمه من حلول لمنع انزلاق الوطن إلى فوضى أو انفلات، ولا أحد يعرف الأفق الذي يمكن أن يصل إليه هذا أو ذاك.
جرى التوصل إلى تفاهمات في أوقات كثيرة بشأن الإصلاح الدستوري وآليات التحول الديمقراطي السليم وتطوير ملف حقوق الإنسان، ولم ير أي من هذه الملفات النور. دخلوا محادثات وتراشقات. تبادلوا الاتهامات بالعمالة والتآمر والخيانة، وكل جانب وضع على عاتق الآخر مسئولية الاخفاق.
تمكن نظام البشير من فرض قبضة كان يرخيها عندما يشعر بالخطر الداهم على السلطة، ويحكمها إذا امتلك حدا معقولا من القوة المفرطة. وعقد صفقات مع أحزاب سياسية كبيرة وصغيرة كي لا يقدم تنازلات تزحزح أركانه. وحملت المعارضة البندقية والقلم ورفعت شأن الحوار وعصفت الذهن ولم تستطع انجاز ما يرضيها من الفتات السياسي.
لا ينزعج السودانيون كثيرا على مستقبل بلدهم في هذا الجانب، ولدى معظمهم طمأنينة غريبة أو يقينا غيبيا يجعلهم يكذبون الهواجس التي تتناثر حول وقوع صدام محتمل بين قوى الدولة الحية والميتة. لم يبرح غالبيتهم الشعور بأن هناك إرادة خفية تمنع وقوع بلدهم في فخاخ الدول الأخرى. يقدمون على التفاوض والشجار وهم على يقين أنهم لن يصلوا إلى حد القطيعة.
يحدث شيء مماثل لذلك الآن في الحوارات المتقطعة بين المجلس العسكري والحرية والتغيير. تفاهمات وخلافات وصدامات وعنف وحوارات وتراشقات. تظهر كل هذه الملامح أحيانا دفعة واحدة. وجعلت هذه التناقضات الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يستغرب خلال مرحلة المفاوضات بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان منذ حوالي عقدين، حيث رأى الرجل وفدي الطرفين يقبلان بحميمية شديدة على التحية والسلام قبل الالتفاف حول طاولة المفاوضات، وعقب الجلوس مباشرة يبدأ فاصل قاس من الشد والجذب، للدرجة التي جعلت كارتر يتصور أنهما لن يجلسا معا مرة أخرى، لكنهما جلسا وأعيد المشهد مرات كثيرة.
استمرت مفاوضات فصل جنوب السودان سنوات طويلة حتى حصل على استقلاله رسميا عام 2011. وكان من الممكن أن تستمر حتى يومنا. فقد عجلت تدخلات قوى دولية كبيرة خطة سلخ الجنوب عن الشمال. وهذا هو الاستثناء الذي انتهت فيه المفاوضات إلى نتيجة محددة بالسودان، ولم تحدث قطيعة أو تنته الحوارات.
مرت سنوات كثيرة دون حل الأزمات المسلحة. دخلت على خطوط دارفور جهات محلية وإقليمية ودولية ولم يتمكن أحد من التوصل إلى تسوية نهائية. تقاذفتها قطر وتشاد وتنزانيا ونيجيريا وإثيوبيا. وعقدت اجتماعات بين الحركات المسلحة وحكومة الخرطوم ولم تتقدم خطوة على مستوى الحل السياسي المرضي، أو الحل العسكري الحاسم. تطفو وتخبو ولا تتوقف روافدها المختلفة.
تواجه الأزمة في ولاياتي جنوب كردفان والنيل الأزرق موقفا شبيها. دخلت الخرطوم سلسلة من المعارك والمحادثات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال، ولم يحسم الموقف عسكريا أو سياسيا. قد تتقدم أو تتأخر وتتجمد العدائيات من غير إعلان رسمي عن وقف المناقشات. كأن الحوار في حد ذاته مقدس ويصعب المساس به على أرض السودان.
ربما يكون الوضع أفضل كثيرا في الشرق مع الهدوء الذي يشهده بعد حزمة تفاهمات واتفاقيات، لكن في المحصلة النهائية توجد قضايا معلقة قابلة للانفجار، بما يجعل الحوار مستمرا. ميزة الشرق أن مشكلاته أقل حدة، وتشابكاته السياسية والاجتماعية مع الخرطوم أقوى من الجنوب والغرب، ما سهل مهمة اخماد النيران.
تقدم المعطيات السابقة تفسيرا للصعود والهبوط الحاصل في المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير. وتؤكد أن الحال يمكن أن يستمر وقتا على هذا المنوال، حيث يملك كل طرف شحنة كبيرة من القوة والعزيمة والإرادة وأوراق الضغط التي تعزز الحوار ولا تقطعه. وتشير التوازنات الراهنة إلى صعوبة أن يحقق أي من الطرفين تفوقا كاسحا.
عصمت فضيلة الحوار السودان من الانزلاق إلى أزمات أشد وعورة، تهدد سماحته وكيانه ووحدته، لكنها لم تعصمه من استمرار المشكلات السياسية، لأن غالبية الأطراف المنخرطة فيها تقف خلفها مصفوفة شعبية، وترى أن لها حقوق يجب عدم التهاون في الدفاع عنها.
تكشف هذه المسألة وجها من وجوه الأزمة الحالية. فالمجلس العسكري يرى أنه مؤتمن على حماية البلاد، وأقدر على مواجهة المخاطر والتحديات. وتعتقد قوى الحرية والتغيير أنها مسئولة عن حماية الثورة وجلب حقوق الشهداء، والوصية على نقل البلاد من حكم عسكري-إسلامي إلى آخر مدني يحقق تطلعات المواطنين. وهذه كفيلة لتجعل الحوار ممتدا في السودان.