الحبيب الأسود يكتب:
إخوان تونس ووهم المؤامرات الخارجية
لا تزال مجريات الخميس 27 يونيو 2019 تلقي بظلالها الغامضة على المشهد التونسي، بينما يتواصل سيل الاتهامات الصادرة من هذا الطرف أو ذاك، بوجود مؤامرة انقلابية، يبدو أنها تدخل ضمن منتجات المراهقة التي تميز النخبة السياسية الفاعلة في البلاد. فمجرد التفكير في الانقلاب أو الحديث عنه يعتبر حالة اعتباطية ارتجالية ناتجة عن قصور في الفهم للواقع الذي تسير عليه البلاد والمنطقة والعالم.
ما حدث في ذلك اليوم كان مربكا للساحة السياسية والإعلامية. عمليتان إرهابيتان في العاصمة، وهجوم على محطة للإرسال الإذاعي والتلفزيوني في أحد مرتفعات غرب البلاد، وإعلان عن وعكة صحية للرئيس الباجي قائد السبسي قال بلاغ رسمي إنها حادة، تلته إشاعات عن وفاة الرئيس خرجت من داخل البرلمان الذي يبدو أنه عرف اضطرابا تحت قبته، نتيجة إشاعة وفاة قائد السبسي وكذلك بسبب الحالة الصحية لرئيسه محمد الناصر التي قيل إنها تحتاج للراحة، قبل أن ينتقل بنفسه إلى المجلس ليؤكد أن صحته بخير، وأنه قادر على القيام بمسؤولياته كاملة.
ما راج بعد ذلك من حديث عن محاولات من حركة النهضة أو غيرها للانقضاض على الحكم، أو عن الخوف من شغور وقتي أو دائم على رأس السلطة السيادية يمكن تفسيره في سياق المجريات المقلقة لذلك اليوم، خصوصا وأن تدهور الحالة الصحية للرئيس والقائد العام الأعلى للقوات المسلحة تزامنت مع تفجيرين إرهابيين في قلب العاصمة، لكن الحديث عن مؤامرات خارجية تستهدف البلاد هو الذي يؤكد أن تونس ليست بخير، وأن نخبتها تعاني من حالة مرضية تحتاج إلى العلاج النفسي العاجل.
أولا لم يعد خافيا أن إشاعة وفاة الرئيس صدرت عن أعضاء في البرلمان، والنواب أنفسهم أكدوا ذلك، وفيهم من قال إنهم قضوا أكثر من ساعة و30 دقيقة وهم مقتنعون بأن قائد السبسي في ذمة الله، وقد كانت القنوات الإخبارية الجزائرية أول من نشر الخبر في عواجل بالبنط الأحمر العريض، ولا أعتقد أن هناك من اتهم الجزائر بأنها تتآمر على تونس، لكن الاتهام اتجه لقناة “العربية” التي كانت مراسلتها قد نقلت الخبر عن مصادر برلمانية، وهي لم تكذب في التعريف بمصادرها وإنما كانت صادقة، ربما الخطأ الوحيد الذي وقعت فيه هو إصرارها على أن الخبر صحيح رغم أن المذيع كان يحاول إثناءها عن ذلك اعتمادا على تصريح أحد مستشاري الرئاسة أكد فيه أن صحة الرئيس بخير.
اعتذرت القناة لاحقا وقررت فصل مراسلتها، ومع ذلك خرج من يدعي أن هناك مؤامرة خليجية ضد تونس، فقط لأن القناة سعودية وتبث من الإمارات. راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة نفسه سار في هذا الاتجاه ليس لقناعة لديه، ولكن من باب الدفع بالمسؤولية إلى الطرف الذي يراه معاديا لمشروعه، رغم أن ابنته، انتصار، ذاتها أعلنت عن وفاة الرئيس في تغريدة لها على موقع تويتر.
يحاول إسلاميو تونس، وفي مقدمتهم قيادات النهضة، وبعض من الثوريين الراديكاليين والناشطين الانتهازيين، إقناع عموم التونسيين بأن الدول الأخرى ليس لها ما تعمل سوى التآمر على الثورة والانتقال السياسي والديمقراطية الناشئة، وغير ذلك من المصطلحات والمفردات، وأن الحكومة السعودية اجتمعت مثلا يوم 27 يونيو على عجل، وأصدرت أوامرها للديوان الرئاسي في تونس بأن يعلن أن الرئيس يعاني من وعكة حادة، ولنواب في البرلمان بأن يشيعوا أن قائد السبسي توفي، ولقناة “العربية” بأن تطلب من مذيعتها نقل الخبر، وللمذيعة بأن تتمسك بصدقية الإشاعة، وربما للإرهابيين بأن يفجرا نفسيهما في شارع الحبيب بورقيبة، وللسلطات الأمنية كذلك بأن تتغافل عنهما.
بمثل هذه التخيلات يحاول بعض السياسيين التونسيين التعامل مع مجتمعهم، فقط لإقناع أنصارهم أنهم مستهدفون، ولإقناع الشعب بأن هناك محور شر يحاول ضرب تجربتهم الديمقراطية، وكالعادة تتم الإشارة إلى بلدين هما السعودية والإمارات وربما لمصر كذلك، ثم لفرنسا، وأحيانا للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر.
مشكلة الإسلاميين في تونس أنهم يزجون ببلادهم في صراع المحاور، ويرتبطون بقوة بالمحور القطري التركي الإخواني الميليشياوي، ويجرون الدولة ومؤسساتها إليه، بينما كان الأصلح أن يتعاملوا مع الواقع كما هو، وأن ينأوا بأنفسهم وببلادهم عن تلك الصراعات، وأن يتجاوزوا وهم النموذج الذي يعدون به، أو وهم الديمقراطية التونسية المستهدفة، لأن لكل مجتمع خصوصياته، ولكل بلد ظروفه، ولكل شعب أولوياته، ولكل دولة مصالحها.
نعم، هناك محور عربي وإقليمي ودولي معاد للإسلام السياسي وللمشروع الإخواني ولديه دوافعه وأسبابه لذلك، ولكن هذا المحور ليس معاديا لتونس ودولتها وشعبها، ولا يقضي ساعات الليل والنهار أو يدفع الملايين من الدولارات للتآمر عليها كما يروج الإسلاميون الذين كانوا يصرخون في العام 2014 بأن قائد السبسي مجند من ذلك المحور للقضاء عليهم، لكنه وضع يده في يد النهضة وشرّكها في الحكم وأعطاها فرصة التغلغل في مفاصل السلطة بشكل غير مسبوق.
يُقال إن العقل زينة للإنسان فما بالك بالسياسي المؤتمن على مصير شعب، وعلى إسلاميي تونس أن يترفعوا قليلا عن أوهام المظلومية الإخوانية التي تقود تحركاتهم، وأن يكفوا عن الشكوى والحملات الإعلامية المدسوسة ضد هذا الطرف أو ذاك، وأن يرحموا بلادهم من صراع المحاور، ويتركوها كما أرادها مؤسس دولتها الحديثة الحبيب بورقيبة واحة أمن وسلام واعتدال وعقلانية، لا دولة منتجة للشعارات الأيديولوجية المتشددة والخطاب العقائدي المتشنج والمواقف العدوانية باسم مظلومية زائفة، أو استهداف غير موجود إلا في عقول المروجين له.