محمد أبوالفضل يكتب:
احذروا القضايا المعلقة في السودان
أخمد الاتفاق الذي توصل إليه المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير بوساطة أفريقية- إثيوبية مشتركة مساء الخميس، نيران التظاهرات في الشوارع، ونزع فتيل أزمة سياسية مشتعلة بين الطرفين، وأكد الحرص على الخروج من الحلقة الضيقة السابقة.
ويمثل التوقيع النهائي (متوقع الثلاثاء القادم) نقلة نوعية مهمة في محاولة حسم القضايا المعلقة، ووقف سيناريو الحوارات الممتدة بين القوى السودانية، التي تتخذ طابعا مفتوحا، ومن دون تحديد أفق زمني لها، بما يجعل هذه الجولة الجديدة من الحوارات مختلفة عن غيرها.
راعى الاتفاق الأخير هذه المسألة، عندما أُمهلت قوى الحرية والتغيير 72 ساعة للانتهاء من ملف المجلس السيادي ورئاسته. وبالفعل تم إنجاز المهمة في أقل من المدة المحددة، ما يشير إلى أن هناك استفادة من تراكم الخبرات التاريخية، وحرصا على رسم خارطة التزامات كل طرف، ورغبة في غلق الأبواب على من يريدون استمرار الارتباك.
مهما حاولت الأطراف المتفاوضة ولجان الوساطة في أي أزمة توضيح مسؤوليات كل جانب، فسوف تبقى بعض التفاصيل عصيّة على التوقيتات وتوفير الهدوء الكامل والاستقرار الشامل، لأنها تخضع للواقع العملي على الأرض، الذي يلعب أحيانا دورا مؤثرا في تغيير اتجاه قضية معينة. ويتوقف قبول ورفض نتائجها من الطرف المقابل على درجة التغيرات التي دخلت عليها، وهل هي متعمدة أم هي إفراز طبيعي للواقع.
توافرت ملامح زخم محلي وإقليمي ودولي للاتفاق الأخير، حالت دون الوصول إلى محطة الفشل المعتادة. وظهرت تجليات الضغوط الخارجية في التوصل إلى إنجاز شفهي سريع، وتأجيل التوقيع النهائي عليه بضعة أيام. ومن الصعوبة على الطرفين أو أحدهما التنصل منه. ويكفي إلقاء نظرة على ردود الفعل الإيجابية للتأكد من أن جهات كثيرة تنفست الصعداء بمجرد الإعلان عنه، ما يمثل كابحا قويا للتفكير في نقضه، على غرار اتفاقيات وتفاهمات في أوقات سابقة.
يعدّ الحرص على تحويل التوقيع على الاتفاق إلى احتفالية سياسية عالمية، إحدى علامات التحصين أو ردع التنصل من الواجبات، لكنها لا تعني عدم استخدام “الفيتو” السياسي من أي طرف عند الإخلال بالالتزامات العامة، أو أن الجهات الخارجية الحاضرة ستوفر الضمانات الكافية بما يحول دون نقض الاتفاق، فلا أحد يملك هذه الرفاهية في ظل أزمة تتسم بقدر عال من السيولة، ويمكن أن تنفلت في أي لحظة. والضمان الوحيد هو الشعور بالمسؤولية السياسية، وعمق المخاطر التي يمكن أن تنطوي عليها التداعيات الخشنة في السودان.
جرى توقيع اتفاقيات عديدة في عواصم إقليمية متباينة، وتوفرت لمعظمها رعاية واسعة، غير أنها عجزت عن الصمود والتطبيق، باستثناء عملية انفصال جنوب السودان، التي حظيت باهتمام قوى دولية كبيرة، مهدت الطريق لحصول هذا الإقليم على الاستقلال. بينما أخفقت الضجة حول أزمة دارفور وما لحق بها من انتهاكات إنسانية وتحويل الرئيس المعزول عمر حسن البشير وعدد من رفاقه، إلى المحكمة الجنائية الدولية، في زحزحتها كثيرا عن مكانها، ولا تزال الأزمة مستمرة حتى الآن.
لتجنب مصير الحوارات التي جرت حول أزمات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وفشل المفاوضات مع قوى المعارضة الشمالية إبان حكم البشير، بات من الضروري ترسيم خارطة طريق سياسية، تتوفر لها محددات داخلية وخارجية، كي لا يصبح الحوار من أجل الحوار هدفا في حد ذاته، وعنصرا يبعد شبهة التواطؤ أو التراخي عن كل طرف.
يجيد السودانيون لعبة الحوارات كعملية سياسية مستقلة. يُقبلون ويُدبرون عليها بسهولة، لأنها جزء من النسيج الاجتماعي. وهي واحدة من التحديات الكبيرة التي تحيط بكل مفاوضات، فالاتفاق النهائي ليس دليلا كافيا على التنفيذ. فكم من محادثات انفضت وكأنها لم تعقد؟ وكم من مناقشات تمت ولم تغير شيئا؟ وكم من اتفاقيات وقعت ونقضت قبل أن يجف حبرها؟
لم تتمكن لجنة الوساطة المشتركة من تقليص الهوة بين الطرفين قبل الحصول على دعم خارجي كبير مثّل لحظة فارقة في حضهما على الجلوس والتفاهم، وقطع الطريق على خيارات غامضة كانت تنتظر الأزمة في السودان.
لكن هذا لا يعني غلق جميع الملفات، فلا زالت هناك قضايا معلقة، بعضها يخص تفاصيل الدور الذي يلعبه المجلس السيادي ورئيسه، والآخر يخص تشكيل الحكومة والتمثيل النسبي للأطياف السياسية المختلفة، ناهيك عن عملية اختيار أعضاء المجلس التشريعي المؤجلة.
تتردد دوما في جميع الاتفاقيات عبارة “الشيطان يكمن في التفاصيل”، كدلالة على الصعوبات. وهي صحيحة إلى حد كبير، ويتوقف نجاح الاتفاقيات أو التعثر فيها على الثقة بين الأطراف المتفاوضة، والتقدير العام للعواقب والمخاطر، والطريقة التي يتم بها تطبيق الاتفاق وأهدافه، وحجم المسؤولية السياسية، فهناك قوى تغلّب مراميها الأيديولوجية والعقائدية على الوطنية.
في حالة الأزمات التي مر بها السودان، كان “الشيطان” الكامن يظهر عقب وقت قصير من الجلوس على طاولة المفاوضات، ما جعلها عصية دائما على الصمود أمام العواصف السياسية. وأحيانا يتم تعمد ترك الأمور غامضة، اتساقا مع قاعدة “الغموض البناء” التي تتردد في بعض الأزمات. الأمر الذي ظهر في الاتفاق الأخير بشأن دورية رئاسة المجلس السيادي، والحكمة من منح المجلس العسكري 21 شهرا الأولى، مقابل 18 شهرا لقوى الحرية والتغيير، والآلية التي تسمح بالتوفيق بين السيادي والحكومة وآلية اتخاذ القرار في الغرفتين.
لا أريد الدخول في تفاصيل الاتفاق، أو الحكم على تنفيذه حرفيا، إيجابا أو سلبا، فقد وقف عنده كثيرون للتقييم. وما يلفت النظر أن الحوارات متواصلة في السودان ولم تنقطع، على الرغم من المسافات المتباعدة بين أطرافها في أوقات كثيرة.
وإذا توقفت الحوارات أو تعثرت أو تجمدت فيمكن استئنافها سريعا، بدليل جلوس وفد المجلس العسكري مع وفد الحرية والتغيير، وتجاوز الاتهامات التي أعقبت عملية فض الاعتصام في 3 يونيو الماضي ووقوع عشرات الضحايا من المدنيين.
لن يؤدي حدوث خلافات الأيام المقبلة داخل معسكر كل طرف إلى وقف المفاوضات نهائيا. فمن المنتظر أن يحدث ذلك في أسماء المرشحين الخمسة من كل جانب. فالطيف الواسع الذي تضمه قوى الحرية والتغيير قد ينعكس على الاختيار. كما أن النزول بالعدد من سبعة إلى خمسة ممثلين، ربما يثير بلبلة داخل المجلس العسكري المكون من سبعة أشخاص أصلا، وبالتالي ثمة قيادتان لن تكونا ممثلتين في المجلس السيادي.
تمكن تحالف الحرية والتغيير من التخلي عن قدر واضح من رومانسيته السياسية، ونجح في احتواء بعض الانقسامات التي ظهرت، ومن المرجح أن يتمكن من تحييد الخلافات في الفترة المقبلة لأنها لا تعني القطيعة لدى غالبية السودانيين، فقد اعتادوا عليها في غالبية الأزمات ولا تمثل إزعاجا كبيرا للجنة الوساطة.
والأمر نفسه بالنسبة للمجلس العسكري، حيث أظهر قدرا واضحا من النضج والعقلانية، وأبدى تجاوبا ظاهرا مع تطلعات المواطنين وطموحاتهم في تشكيل حكومة مدنية، ووعد بمعاقبة من أفسدوا الحياة السياسية والاقتصادية سابقا، ومحاسبة من أساؤوا للثورة السودانية بعملية فض الاعتصام بالقوة.
لذلك فالحذر واجب في تفاصيل بعض القضايا المسكوت عنها، لأن تفجيرها عمدا في ظل الأجواء الاحتفالية والمتفائلة بالاتفاق سيكون كفيلا بالتأثير سلبا على العلاقة بين المجلس العسكري والحرية والتغيير، ما يستوجب المزيد من التريث لعبور هذه المرحلة الدقيقة التي يمكن أن تمضي في سياق جديد يعيد الاعتبار إلى فكر الحوار البناء.