الحبيب الأسود يكتب:

استقالة باباجان وتآكل حزب أردوغان المنظومة الأخلاقية للإخوان

لا يمر خبر استقالة علي باباجان من حزب العدالة والتنمية في تركيا دون قراءته بعمق، خصوصا عندما يؤكد القيادي المستقيل أن قراره جاء بسبب خلافات جذرية حول توجهات الحزب وبسبب قناعته بأن البلاد تحتاج إلى رؤية جديدة. ففي “ظل الظروف الحالية تحتاج تركيا إلى رؤية جديدة تماما لمستقبلها. هناك حاجة إلى تحليلات صحيحة في كل مجال، وإستراتيجيات مطورة حديثا وخطط وبرامج لبلادنا” وفق ما ورد في بيان الاستقالة.

وباباجان الذي يطلق عليه لقب مهندس الطفرة الاقتصادية لتركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، سيجر وراءه أكثر من 70 نائبا من كتلة الحزب البرلمانية التي يبلغ عدد أعضائها 327 نائبا وفق انتخابات 2015، كما تشير المعطيات إلى أنه سيقتطع ما لا يقل عن 30 بالمئة من الرصيد الانتخابي لحزب أردوغان، لفائدة الحزب الجديد الذي بدأ الإعداد لتأسيسه، والذي لن يحمل صفة الحزب الإسلامي، وإنما سيكون ليبراليا تقدميا حداثيا جمهوريا وفق المعايير المعتمدة أوروبيا.

باباجان دخل معترك العمل السياسي في عام 2002 بوصفه أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية وعضو مجلس الإدارة فيه، ثم انتخب عضوا في مجلس النواب عن مدينة أنقرة في 3 نوفمبر 2002، وعين وزيرا للشؤون الاقتصادية في 18 نوفمبر 2002، وكان أصغر عضو في مجلس الوزراء وعمره 35 سنة. وكان وراء التخطيط لإصلاح الوضع الاقتصادي في تركيا محققا الانتعاش الاقتصادي بعد سنتين من مباشرة عمله ليطوي ملف سنوات من الأزمات الاقتصادية التي عانتها الدولة، وفي 24 مايو 2005 أعلن رجب طيب أردوغان تعيينه في منصب كبير المفاوضين في محادثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. كما حضر العديد من الاجتماعات الدولية بما فيها منتدى دافوس في سويسرا.

حاول أردوغان أن يعاقب باباجان على موقفه من الوضع الحالي بالدفع إلى ملاحقته قضائيا بتهمة انتدابه لموظفين مرتبطين بفتح الله غولن، عندما كان وزيرا للاقتصاد، وأمام النائب العام رد باباجان أنه كوزير لم يكن صاحب القرار الأول في التوظيف، وإنما كان يوجه مقترحاته إلى رئيس الحكومة كي يوقع عليها ومن هناك تم إغلاق الملف.

استقالة باباجان ضربة موجعة لحزب العدالة والتنمية من قيادي لم يكن من المندفعين بهواجس السياسة، وإنما كان رجل اقتصاد بالدرجة الأولى ومن الطراز الممتاز، وما يزيد من التأثير السلبي لهذا القرار أنه تزامن مع الانتقادات الحادة التي وجهها أحمد داود أوغلو المنظر الإستراتيجي لحزب العدالة والتنمية، والذي تم إجباره على تقديم الاستقالة من وزارة الخارجية عام 2015، لحكومة إردوغان بسبب خضوعها لسلطة العائلة، ليؤكد ما قاله سابقا أن الشعب التركي يفقد الأمل بسبب الأزمة الاقتصادية وتزايد الخلاف السياسي وتآكل القيم الأخلاقية.

الرئيس السابق عبدالله غول هو الآخر خارج سرب العدالة والتنمية، وسيكون مع داود أوغلو في الحزب الذي قال باباجان إنه بصدد تأسيسه. غول لا ينسى أنه تعرض لاضطهاد من قبل أردوغان وصل إلى حد التهديد المباشر في حالة ترشحه للرئاسيات الماضية، عندما نزلت مروحية على سطح بيته لتبلغه بالتحذير من أي محاولة لمنافسة السلطان العثماني الجديد.

حزب العدالة والتنمية يتآكل داخليا وخارجيا. هزائمه في الانتخابات البلدية الأخيرة والتي أفقدته رئاسة أكبر ثلاث بلديات، أنقرة وإسطنبول وأزمير، مثلت الضربة القاصمة التي شجعت الرافضين لسياسات أردوغان على التمرد، وعلى توجيه الانتقادات المباشرة لقيادة خاضعة لحكم الأسرة، متورطة في كل أشكال الفساد المالي والإداري والسياسي، حتى أن “البلاد دخلت إلى نفق مظلم جديد بقيادة الحزب الحاكم المهزوم”، حسب وصف الكاتب الصحافي والخبير الاقتصادي أوغور جورسيس عندما علق على قرار إقالة محافظ البنك المركزي، بينما لا يزال برأت آلبيراق صهر الرئيس متربعا على كرسي وزارة المالية والخزانة، رغم أن الحكومة كانت أعلنت منذ عام 2010 أن المستهدف أن تكون معدلات التضخم عند مستوى 5 بالمئة فقط ولكن معدلات التضخم أعلى من 15 بالمئة حاليا، مما يعني أنها لم تصل لأهدافها وإنما تجذرت أكثر في تربة الشللية والمحسوبية.


اليوم أطبقت أسرة أردوغان قبضتها على البنك المركزي، الليرة تتراجع بقوة أمام الدولار، أكبر المستثمرين الأجانب يغادرون، وتركيا تحتل المركز الثالث بين أكثر الدول سدادا لفوائد الديون، حتى أن حكومة حزب العدالة والتنمية خصصت 68.8 مليار ليرة تركية لسداد فوائد الديون من ميزانية عام 2018، مقابل 117 مليار ليرة تركية لسداد فوائد الديون من ميزانية عام 2019. وخلال الأسبوعين الأخيرين شهدا تراجع مؤشر مخاطر الاقتصاد التركي من 500 نقطة إلى 380 نقطة، لتكون بذلك المخاطر حول الاقتصاد التركي أعلى من دول مثل مصر واليونان والبرازيل.

ما يزيد من تعميق أزمة أردوغان فضح مستويات الفساد في البلديات التي فقد حزبه السيطرة عليها، حيث كشف رئيس بلدية إسطنبول الجديد أكرم إمام أوغلو إحصاءات صادمة، وأعلن أنه فور توليه رئاسة إسطنبول كانت خزانة البلدية تضم بداخلها 7 ملايين ليرة فقط وتعاني من ديون تجاوزت فترة سدادها بقيمة 5.8 مليار ليرة، وقال “لأول مرة في تاريخ تركيا تم منح بلدية إسطنبول المساهمة المالية في يوليو قبل أن نتولى رئاسة البلدية، وخلال أسبوع واحد تم إنفاق 980 مليون ليرة واردة من وزارة المالية والخاصة بشهر يوليو، لم يتبق منها قرش واحد لسداد الضرائب والرواتب”. كما تم إنفاق الرصيد الاحتياطي لموازنة النفقات الذي يقدر بـ1.7 مليار ليرة خلال النصف الأول من العام الجاري.

الفساد في تركيا بات ظاهرة مكشوفة للعيان. الانهيار الاقتصادي تحول إلى واقع ملموس، ما وصفه داود أوغلو بفقدان الأمل وتآكل الأخلاق أضحى من مقومات الحياة السياسية. حكم العائلة لم يعد خافيا عن أحد، والتحالف بين الحيتان الكبيرة والنافذين في حزب العدالة والتنمية تحول إلى جزء من هيكلة النظام الحاكم. العزلة الإقليمية والدولية أصبحت حقيقة، وشعار “صفر أعداء” الذي رفعه داود أوغلو قبل سنوات صار صفر أصدقاء، وكل ذلك ينعكس سلبا على أحزاب الإخوان بالمنطقة العربية، والتي لا تقل فسادا، وإن كان فسادا مغطى بالانضباط الأيديولوجي. الإسلاميون رغم كل ما يرفعون من شعارات أخلاقية، يبقى تحركهم في إطار الأسرة والمقربين من الجماعة وصولا إلى خدمة الزعيم أو المرشد أو الإمام ومن يشاركونه لعبة ابتزاز عواطف العامّة، ومسألة الأبناء والأصهار وشركاء الثروات الطائلة والإستثمارات الخفية وجمع الدعم والتبرعات تتكرر في أكثر من بلد.

إستقالة باباجان من حزب العدالة والتنمية واتجاهه صحبة داود أوغلو وغول لتأسيس حزب جديد، ستطيح بالكثير من آمال أردوغان في الحفاظ على زعامته، المشكلة لم تعد صراعا على الحكم، بل هناك يقين لدى تاركي الحزب بأن مشاعر انتمائهم إليه بدأت تتلاشى وهذا ما قاله أردوغان نفسه وهو يتحدث عن موقف مهندس البرنامج الاقتصادي لحزبه. الواقع أن المشاعر بدأت تتلاشى ليس فقط إزاء العدالة والتنمية، ولكن إزاء عقيدته الفاسدة وشعاراته الزائفة وخطابه العدواني، وهذا الأمر لا يخص تركيا فقط وإنما كل البلدان التي أصيبت بلعنة الإسلام السياسي، والتي اكتشفت أو تتجه لاكتشاف فساد المنظومة الأخلاقية لدى الإخوان.