فاروق يوسف يكتب:
المهدي قطبي فنان عالمي بشروط مغربيته
أحيانا تكون سيرة الفنان جزءا من حياته العامة وليست منفصلة عنها. ذك النوع من الفنانين لا يركن إلى عزلته بل ينحاز إلى حسه العملي، مازجا بين خبرتيه في الفن وفي الحياة ليصنع منهما طريقة تفكير تميزه.
تبدو الوصفة على قدر من اليسر غير أن إنجازها عمليا هو على قدر كبير من العسر. ذلك لأن هناك عثرات غير متوقعة، يمكنها أن تقلب الأمور رأسا على عقب فلا يبقى شيء من الفن وتبدو الحياة كما لو أنها طعم مسموم.
الإمساك بطرفي المعادلة يحتاج إلى موهبة من نوع خاص.
وهي الموهبة التي أهلت المغربي المهدي قطبي لأن يكون فنانا نادرا من نوعه. لقد جمع بين حياته وفنه باعتبارهما صديقين، يخدم أحدهما الآخر أما حين يختصمان فإنه يغلب أرقى ما فيهما ليعودا إلى انسجامهما.
“سفير فني” “دبلوماسي ثقافة” وسواهما من الألقاب يمكن أن يوشح بها في مسيرته الفنية التي كانت في الوقت نفسه مسرحا لصداقات عظيمة، لعبت دورا عظيما في تأثيث حياته بالأحداث السارة.
لقاءات الحظ السعيد
بدأ الحظ السعيد بلقائه بالفنان الرائد الجيلالي الغرباوي ليسلمه إلى حوار ثقافي طويل مع العاهل المغربي الحسن الثاني. كانت رحلة تخللتها صداقات مهمة مع عدد من رجال الثقافة والسياسة في فرنسا، كان لها دور في تطوير العلاقات بين المغرب وفرنسا، على الأقل على المستوى الثقافي.
ولكن فن قطبي كان هو الأساس في كل تلك الصداقات. لو لم يكن قطبي فنانا مؤهلا لتمثيل ثقافة بلاده الشعبية والمعاصرة لما حظي باهتمام رجال من الصف الثقافي والسياسي الأول في فرنسا.
نال قطبي الكثير من التكريم، غير أن تكريمه الأهم وقع حين كلفه العاهل المغربي محمد السادس برئاسة المؤسسة الوطنية للمتاحف. منصب يمكن للمهدي القطبي أن يلخص من خلاله سيرة حياته؛ ما كان يفكر فيه وما سعى إليه.
مؤسسة هي بحجم أحلامه المنفتحة على كل الجهات. من خلالها استطاع أن ينقل العالم إلى المغرب وينقل المغرب إلى العالم.
ولد المهدي قطبي عام 1951 بمدينة الرباط. أقام أول معارضه عام 1968. يومها لم يكن قد درس الفن أكاديميا. أعجب الفنان الرائد الجيلالي الغرباوي برسومه وشجعه من خلال الترويج لأعماله بين كبار المقتنين. بعدها اتجه قطبي إلى دراسة الفن في مدرسة الفنون الجميلة بتولوز ثمّ انتقل إلى باريس للدراسة في المدرسة العليا للفنون الجميلة.
لم يتوقف قطبي الذي عُرف بتعدد اهتماماته الفنية عند حدود اللوحة في منجزه الفني بل تعداها إلى تصميم الحلي وأدوات الزينة النسائية بالتعاون مع كبرى دور الموضة العالمية. كما صمم أغلفة لكتب عدد من مشاهير الأدباء الفرنسيين.
إلى جانب انشغالاته الفنية فقد انغمس قطبي في عملية تطوير العلاقات الثقافية المغربية بأوروبا وبالأخص في الفضاء الفرنسي. فأسس عام 1991 دائرة الصداقة المغربية الفرنسية وفي عام 1998 دائرة الصداقة الأوروبية المغربية كما أسس عام 2000 جمعية “صلة وصل – أوروبا المغرب”.
وبسبب دوره المهم في ذلك المجال فقد نال قطبي العديد من الأوسمة وفي مقدمتها وسام الاستحقاق الوطني من درجة فارس من فرنسا عام 2004.
أثناء تسلمه وسام جوقة الشرف للجمهورية الفرنسية من درجة قائد خاطبه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قائلا “إن أسلوبكم يفوح شعرا ووئاما. إنه موجة من الألوان”، وفي عام 2011 كلفه الملك المغربي محمد السادس برئاسة المؤسسة الوطنية للمتاحف.
ما قدمه قطبي على مستوى فني يعبر عن محاولة للانتقال بـ”الحروفية العربية” من كونها استلهاما لجماليات الحرف العربي إلى الموقع الذي تكون فيه قادرة على تجسيد مزاج فني معاصر، هو بمثابة جسر بين ثقافتين. لم تكن الرغبة في التعريف بالذات لتغلب على السعي للتحليق في فضاء الآخر. لذلك كان قطبي ينسج سجادته لا ليبهر الآخرين بقوة انتمائها إلى التقاليد الشعبية بقدر ما كانت محاولة للعبور إليهم من خلال استيعاب مفردات ثقافتهم. أحاط قطبي الحروفية العربية بعنايته حين وسع من دائرة حضورها.
أقام قطبي معارض شخصية في مدن عالمية مختلفة من نيويورك إلى طوكيو وما بينهما. غير أن معرضا استعاديا أقامه في مدينة ليل الفرنسية عام 1999 تظل ذكراه تؤرقه. ذلك المعرض الذي يؤرخ لخمس وعشرين سنة من الجهد الفني الخلاق لم تعد هناك أي لوحة من لوحاته موجودة اليوم. لقد التهمتها النيران حين تعرضت القاعة لحريق قضى على كل ما تحتويه.
كان ذلك الحريق واحدا من أهم أحداث حياته. ستكون ذاكرة قطبي مفتوحة على النار التي التهمت جزءا من عمره. وهي نار، قاومها بالثقافة التي وهبت قدميه ثقة أن تمشيا على شوارع غريبة، كما لو كانت دروب قريته الأولى. هل ختم قطبي حياته الفرنسية بذلك الحريق؟
أعتقد أنه يفكر بطريقة مختلفة. فهو ابن الثقافة الفرنسية مثلما هو ابن الثقافة المغربية. لذلك فإن رسالته الفنية قامت على أساس الحوار بين الضفتين وهو ما قوى لديه أسباب المقاومة.
لم تكن فكرة المكان لتحتل جزءا من تفكيره الفني. لقد وهبته الحروفية قوة التماهي مع الزمن. تلك فكرة صنعت من قطبي فنانا وإنسانا قادرا على إدراك معنى أن يكون واقفا على ضفتي ثقافتين ليقفز من خلال ذلك الإدراك على سوء الفهم الذي تقع فيه الثقافة الشعبوية.
ولكن ماذا عن حروفية قطبي؟ في “نسج الكتابة”، وهو عنوان أحد معارضه المتأخرة، سعى الفنان إلى أن يصنع من الحروف أشكالا. تلك الأشكال ستكون مصدر إيحاء بصري مريح. شيء من الزخرفة الحرة التي تضرب بإيقاعها الحواس بطريقة متقطعة. هناك صور متخيلة تسببها سلسلة الأوهام البصرية التي تنبعث من الأشكال المتتالية. يقودنا الرسام إلى مناطق غير مأهولة إلا بالموسيقى التي تملأ فراغا، ما كنا نشعر بوجوده لولا ما صار يقع أمامنا من تلاقيات بين أشكال لم نتوقع ظهورها.
قطبي يلعب بحروفه كما لو أنها كائنات حية صار عليه أن يحتفي بأنفاسها. ما يظهر على لوحاته هو انعكاس لتلك الحياة الخفية التي هي جزء من عالم جمالي، ما إن يمد الرسام إليه يده حتى تعود ممتلئة باللقى النادرة. يكتب قطبي لكي يكون سعيدا بما يكتبه. ذلك لأن رسومه تفاجئه بحفلة إيقاعات لم يكن يتوقعها.
قطبي ليس رساما أصوليا؛ بمعنى أن رسومه الحروفية لا تتبع جماليات الحرف العربي كما هو الحال لدى الحروفيين العرب. حروفيته “عضوية”، وهو مفهوم يمكن العثور على ما يؤكده من خلال الأشكال التي تظهر في لوحاته. وهي أشكال مستعارة من الطبيعة.
تلك الأشكال تذكّر بما كان يفعله الفنان التقليدي المغربي وهي في الوقت نفسه تتصل بالأشكال الغامضة التي أنتجها فنانو السريالية الفرنسيين.
وهكذا تكون فكرة “صلة وصل” حاضرة بقوة من خلال الرسم.
وضع قطبي نفسه وفنه في خدمة الهدف ذاته؛ أن يكون جسرا بين ثقافتين. وهو ما استفاد منه في فنه كثيرا وما شكل غنى في تجربته الحياتية.
وهي تجربة ستكون بمثابة مرآة حقيقية لمسيرة فنان، عرف كيف يرتقي بمغربيته إلى مستوى العالمية. المهدي قطبي هو فنان عالمي بشروط مغربيته.