فاروق يوسف يكتب:
همج يقاتلون همجا والمجتمع مزرعة دواجن
ليس هناك أكثر يسراً من مسألة إعادة انتاج التنظيمات الإرهابية التي قيل إنه تم القضاء عليها. لا تحتاج الجهة التي تفكر في القيام بتلك المهمة إلى تجميع فلول الإرهابيين الذين ما زالوا على قيد الحياة. بل إنها ستعثر على مادتها البشرية من خلال متطوعين جدد وما أكثرهم.
مجتمعات لم تعد تستهجن ثقافة العنف هي أشبه بالماكنة التي تنتج إرهابيين كما تنتج مزارع الدواجن البيض. هناك أجيال جاهزة للانخراط في الجماعات المسلحة التي لا هدف لها سوى ممارسة العنف لذاته. اما الشعارات الدينية التي تُرفع هناك وهناك فما هي إلا غطاء يُستعمل لإضفاء نوع من المبدئية الكاذبة التي تتغذى على الجهل. وهي وسيلة لا لإقناع تلك المجتمعات المنتجة للإرهابيين بأنها تدافع عن حق مسلوب وتحارب أعداء يريدون الانقضاض عليها.
عن طريق تلك الشعارات يتم تلميع صورة تلك المجتمعات بعد أن غطست في مستنفع همجيتها.
وإذا ما عدنا إلى عام 2014 وهو العام الذي اجتاح فيه تنظيم داعش بالتواطؤ مع الحكومة العراقية بزعامة نوري المالكي نينوى وباقي المحافظات ذات الأغلبية السنية سنلاحظ أن ميليشيا الحشد الشعبي قد تم تشكيلها بسرعة قياسية. لم يحدث ذلك لأن الشباب العراقي اندفع إلى الانتساب إلى الحشد الشعبي بدوافع وطنية بل أنها كانت مناسبة ليقاتل همج همجا آخرين وكلاهما عراقيان.
ليس المساهم في ذلك المشهد كمَن ينظر إليه من خارجه.
صحيح أن الدعاية الحكومية كان لها أكبر الأثر في إشاعة الذعر بين صفوف المجتمع غير أن ذلك المجتمع نفسه لم يكن مستعدا لأخذ نفس عميق والسؤال عمَن صنع تلك المأساة من أجل مساءلته وإنزال العقاب العادل به.
كان هناك استعداد للقبول بفكرة الآخر العدو. ولم يكن ذلك الآخر غريبا. بل هو ابن المجتمع نفسه. فـ"داعش" كما تبين لاحقا لم تهبط من كوكب آخر ولم يدخل مقاتلوها العراق باعتبارهم غزاة.
كان ذلك درسا عميقا دفعت ثمنه مدن عراقية عزيزة موتا ودمارا وخرابا وعزلة لن يخف أثرها ولن تتراجع تداعياتها في انتظار حرب جديدة.
ذلك ما يشير إليه الواقع المظلم الذي تعيشه المدن التي قيل إنها قد حررت من احتلال داعش. ولم يكن التحرير إلا وهما. فـ"داعش" إن لم يكن قد استقر في وجدان أبناء تلك المدن باعتباره "قوة محررة" فإنه لا يزال بالنسبة للمجتمع العراقي الرديف الذي يلتصق ذكره بتلك المدن الحزينة.
ذلك مجتمع ينهش نفسه بنفسه.
وهو ما حدث ويحدث في أماكن متفرقة من العالم العربي.
غير أن المشكلة تكمن في اعتقاد البعض أن الإرهاب هو زائر طارئ وهي محاولة رثة في تبرئة المجتمع من خلال اعفائه من مسؤولية انتاج الإرهابيين، ليكونوا في نهاية المطاف مجرد أولاد ضالين.
ذلك ليس صحيحا بل هو نوع من العمى الذي يُراد من خلاله تكريس حالة الاستمرار في الوضع العبثي الذي تعيشه المجتمعات العربية. فهناك حقيقة ينبغي أن تواجهها مجتمعاتنا. فهي بقدر ما هي ضحية للإرهاب بقدر ما هي مسؤولة عن انتاجه. بل أن هناك مجتمعات صارت تفاخر بالقتلة من أبنائها. ذلك ما يقع حين يتم الدفاع بحماسة عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق وحماس قي فلسطين وجماعة الحوثي في اليمن وكلها عبارة عن جماعات خارجة على القانون.
تلك مجتمعات ارتدت عن الحضارة وصارت ترى في الهمجية عنوانا لوجودها. وهو ما يجدر بالمثقفين أن لا ينزلقوا إلى متاهاته. فالدفاع عن حق المجتمعات في العيش شيء والسكوت عن همجيتها هو شيء آخر.
إن ترك المجتمعات تغطس في وحول عقائديتها القائمة على الإرهاب هو خيانة. خيانة يمارسها المثقفون الذين يدركون جيدا أن مجتمعاتنا لا تزال جاهزة لإنتاج الإرهابيين الذين يوجهون حرابهم إليها.