محمد أبوالفضل يكتب:
لماذا تقدم السودان وتعثرت الجزائر
اندلعت الأزمة السياسية في كل من السودان والجزائر في توقيت متقارب. ويبدو أن قدرة الثانية على تجاوز التداعيات السلبية التي أفرزها إجبار الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة على التنحي أقل من النتائج التي جلبتها عملية عزل الرئيس السوداني عمر حسن البشير، ويبدو أيضا أن المؤسسة العسكرية والقوى السياسية في الجزائر غير قادرتين على التوصل لتسوية سريعة لأزمة اعتقد كثيرون أن انسحاب بوتفليقة من سباق الترشح لعهدة خامسة كفيل بغلقها.
بعد مضي بضعة أشهر قطع السودان شوطا مهما بالتوقيع رسميا على وثيقتي الإعلانين السياسي والدستوري، السبت الماضي، وتدشين المرحلة الانتقالية بالتوافق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، بينما لا تزال الأزمة في الجزائر مستمرة ومعركة كسر العظم والإرادات أخذت أشكالا متنوعة، بل تدحرجت إلى فضاءات عصية قد تؤدي إلى دخول هذا البلد في نفق أشد ظلاما، بعد افتقاده لعناصر محلية دافعة إلى التفاهم، وعوامل ضغط خارجية لازمة لحض جميع الأطراف للجلوس على طاولة واحدة، على قاعدة التنازلات المتبادلة أو الاعتماد على صيغة “لا غالب ولا مغلوب”.
افتقرت النخب الجزائرية، العسكرية والسياسية، إلى الرغبة القوية في الحل وكأنها ارتاحت للانسداد الحالي، وانسجمت مع التراشقات والتجاذبات، ووجد كل طرف فيها وسيلة لاستنزاف الآخرين أو اختبار نواياهم النهائية، وسط همهمات متنامية داخل الجيش حول الدور الذي يلعبه رئيس الأركان أحمد قايد صالح، وتشرذم الأحزاب وافتقادها إلى تيار تجتمع تحت مظلته لإدارة الحوار مع الجيش، كما أن اللجنة التي شكلت لهذا الغرض لم تحرز تقدما ملموسا.
في المقابل واجهت الأمور في السودان تحديات متعاظمة، لأن الخلافات السياسية والاجتماعية والمناطقية ضارية، لكنها تجاوزت الكثير منها، وفشلت حيل ومناورات عديدة في تعطيل مسار العملية السياسية. وفي كل مرة تظهر مطبات تجد من يحرصون على إزالتها حتى وصل الطرفان الرئيسيان، المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، إلى محطة طي صفحات التفاهم والشروع في تنفيذ بنود الاتفاقيات على الأرض.
لكل أزمة خصوصية تمنحها عوامل دفع إلى الأمام أو إلى الخلف. ففي الوقت الذي توفرت فيه جملة من المحددات المعرقلة في الجزائر، حظي السودان بمجموعة من المكونات ساهمت في تخطي واحدة من الأزمات التي كادت تعصف بمستقبله، وتجيب في مضمونها عن السؤال الوارد في العنوان، لماذا تقدم السودان وتعثرت الجزائر؟
يمكن الوقوف عند مجموعة من المتغيرات رفعت رصيد السودان مقارنة بالجزائر، وأدت إلى تسهيل سبل التفاهم السياسي، حتى لو واجه عقبات في الفترة المقبلة، فقد وضعت الخرطوم قدمها على أعتاب التسوية، مستفيدة من الضغوط الإقليمية والدولية غير المسبوقة، والمتابعة الخارجية الدقيقة لتطورات الثورة السودانية التي أبهرت في الكثير من جوانبها العالم، وأجبرت قوى مختلفة على الانخراط فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
لم يتوافر هذا الزخم للجزائر، لأن أزمتها منضبطة داخليا ولا توجد التهديدات الإقليمية القلقة، والسلاح منحصر في أيدي الجيش ومخازن التنظيمات المتشددة، وتفتقر للحركات والفصائل المسلحة والميليشيات الكبيرة المنظمة التي يمكن أن تناطح نفوذ المؤسسة العسكرية، كما هو حاصل في السودان بالنسبة لما يسمى بـ”كتائب الظل” التي أسسها النظام السابق للدفاع عنه.
وما منح الخرطوم قوة جذب خارجية أنها تحولت إلى مركز مهم لبعض القيادات المتطرفة، وجاء عزل البشير فرصة لتنظيف السودان من هؤلاء وجيوبهم المتغولة في مؤسسات الدولة، وتوظيفه إيجابيا في عملية مكافحة الإرهاب بدلا من بقائه كبؤرة وممر للمتشددين.
حافظت الأزمة في الجزائر على طابعها المحلي إلى حد كبير، ولم تشهد لجان وساطة خارجية مهمومة بردم الفجوة بين أطرافها، بينما قامت لجنة الوساطة الأفريقية- الإثيوبية مبكرا بدور محوري في تقريب المسافات بين طرفي الأزمة في السودان؛ المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، لأن الفشل يعني المزيد من التوترات الإقليمية وتعرض دول الجوار للمزيد من المشكلات. كما أن الوساطة الأفريقية حاضرة من قبل في غالبية أزمات السودان، من هنا كان القبول بها منذ اللحظة الأولى انسجاما مع سياقات سابقة.
قبضت هذه الوساطة على زمام المبادرة جيدا، ولم تتمكن أي من القوى الإقليمية الراغبة في مناطحتها والدخول على خطوطها من اختراقها أو تخريبها، ووجدت دعما من قوى دولية أصرت على حل الأزمة سياسيا، ونقل السلطة إلى حكومة مدنية بلا مواربة.
التفت جهات كثيرة حول هذا المطلب الشعبي، وأجبر المجلس العسكري على التسليم به والرضوخ لمتطلباته، بينما أصبح مفهوم الدولة أو الحكومة المدنية مراوغا، ويبدو الدفاع عنه قاصرا على الكتل النشيطة في المجتمع المدني بالجزائر. ولأن السودان عانى كثيرا من المراوحة بين العسكريين والإسلاميين ودفع ضريبة باهظة للسقوط في براثن كليهما لفترات طويلة، فقد كان مطلب السلطة المدنية واضحا وفي مقدمة الشعارات التي حافظت عليها الأحزاب ولن تتنازل عنه أبدا.
كان لنضج الأحزاب السودانية وعمقها ووجود تكتل سياسي وشعبي واحد يعبر عن الجميع (قوى إعلان الحرية والتغيير) من المزايا المهمة التي ساعدت على بلورة خطاب قوي في إدارة المفاوضات الصعبة مع المجلس العسكري، وتنحية القوى الخارجة عن الصف، ومنع فلول نظام البشير من اختراق المعارضة.
وتلك واحدة من المشكلات التي تعاني منها الجزائر، فهناك أكثر من صوت يعبر عن المحتجين، وأكثر من قيادة تتحدث بلسان المعارضة، وأكثر من جماعة تتبنى خطابا مزدوجا، وأكثر من حزب مواقفه متذبذبة بين سلطة المؤسسة العسكرية والحكومة المدنية الخالصة.
لجأت المعارضة في السودان إلى تغليب منهج التنازلات المتبادلة والتعامل بواقعية مع الأزمة المعقدة وابتعدت عن المثالية الزائدة، وعبرت بسهولة حداثة الخبرة السياسية لدى عناصر رئيسية فيها، مثل تجمع المهنيين، بل عممت فكرة أن الطرفين، المجلس العسكري والحرية والتغيير، يمكن أن يكونا متعاونين وليسا متصادمين، وهو ما أفضى إلى تخطي محنتي فض الاعتصام أمام مقر وزارة الدفاع في الخرطوم، وحادث مدينة الأبيّض في شمال كردفان، بعد أن سقط عشرات الضحايا على أيدي قوات الدعم السريع التابعة للجيش.
في حين تصر بعض الدوائر في الجزائر على التفتيش في الدفاتر القديمة، وفتح ملفات جراح لجنرالات سابقين مؤثرين قيل إنهم ارتكبوا جرائم وانتهاكات إنسانية، ضمن لعبة معقدة لتصفية الحسابات بأثر رجعي وليس لتنقية البلاد من الفساد.
انتبه طرفا الأزمة السودانية إلى محاصرة النتوءات التي يمكن أن تسبب قلقا للحوارات بينهما، وفتحا قنوات للتفاهم مع القوى الشاردة والبعيدة عن المركز، ممثلة في الجبهة الثورية المعبرة عن ثلاث حركات مسلحة رئيسية تنشط في مناطق دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وطمأنتها أن السلام الشامل أولوية قصوى في السودان الجديد.
مكنت النظرة العامة للمشكلات من تخفيف وطأة المساعي التي بذلتها قوى راغبة في استمرار الأزمة، وهو الأمر الذي لم تفلح النخبة الجزائرية في الالتفات إليه جيدا، وأغرقت نفسها في تفاصيل جانبية أفضت إلى عدم خروج الأزمة من الشرنقة التي وصلتها بعد اندلاعها ولا تعلم كيف تخرج منها.
ربما تكون تجارب السودان الممتدة مع الثورات والانتفاضات لها دور مؤثر في منع انفلات الأزمة، وساعد تجنب الوقوع في الفخاخ السياسية التي نصبتها فلول النظام السابق، وحسم مصير الرئيس المعزول والضغط على المجلس العسكري للتخلص من القيادات المشكوك في ولاءاتها، في إضفاء بريق على التسوية المطلوبة، لكن في الجزائر تقوم بعض الدوائر في السلطة بالدفاع عن مصالح نظام بوتفليقة حتى الآن، وتمنع الاتجاه نحو حل الأزمة ومحاولة بعثرتها بين أكثر من جهة، لذلك تأخرت الجزائر في الحل.