محمد أبوالفضل يكتب:
السودان من بؤرة صراعات إلى مركز إقليمي
لم تفلح العقود التي تلت تحرر الدول الأفريقية من الاستعمار في تقديم نموذج للحداثة المتكاملة، تنتقل عدواه إلى دول المنطقة. وأخفقت التجارب السياسية والاقتصادية من جنوب أفريقيا وحتى كينيا وما بينهما من دول متطورة نسبيا في تقديم تجربة ناجحة تمثل مصدرا للإلهام في القارة.
غابت الدولة الرائدة واجتهد كثيرون في تطوير الأنظمة الحاكمة، ولم نجد النموذج الذي يحظى باهتمام نوعي من بعض القوى المؤثرة في التفاعلات الدولية، ومنها ينتقل شعاع النور الديمقراطي والتنموي إلى دول تعاني أزمات متفاقمة، ربما لأن الصراعات أخذت أنماطا مختلفة ولا توجد القوة المعنية بتقديم الدولة الجاذبة، وربما تفتقد القارة للحاضنة التي تعبر عن الحداثة بمعناها الشامل في القرن 21.
انتهت الحرب الباردة، وطويت معها إفرازات سياسية واقتصادية وأمنية عدة، وأصبحت تجربة الرأسمالية في كوريا الجنوبية وهونغ كونغ وسط بيئة اشتراكية مسألة عادية، وعدواهما انتشرت في المحيط المجاور، وبزغت دول في الشرق الآسيوي تناهز في تقدمها الاقتصادي دولا في الغرب الرأسمالي.وبصرف النظر عما حققه المشروع من تأثيرات استراتيجية، إلا أنه يقف شاهدا على عمق التحولات في آسيا، واهتمام الولايات المتحدة وحلفائها بتسويق حالة نادرة في مكانها وزمانها لكبح جماح الاتحاد السوفييتي آنذاك وخلخلته وكسر شوكته العسكرية.
يستدعي ما جرى في آسيا منذ عقود نفسه في أفريقيا حاليا. ولا أعلم مدى دقة المقارنة في تقديرات المهمومين بما يدور من تطورات درامية، لكن أشعر أنها حاضرة ومنطقية في أذهان كثيرين، بشكل مباشر أو غير مباشر. فالقارة السمراء متوقع أن تستحوذ على المزيد من اهتمام قوى عالمية من الشرق والغرب، في وقت نجحت بعض الأطراف في تكريس وجودها بالطريقة التي تراها مناسبة لتحقيق مصالحها، ولا يزال هناك من يسعون إلى اللحاق بها.
أصبحت الصين أكبر راع في أفريقيا، ولا تخلو دولة مهمة في القارة، من شمالها إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها، إلا وتلاحقها بكين بالمساعدات والاستثمارات. مع ذلك لم تقدم لنا الدولة الشاهد على براعتها في الاقتصاد أو غيره، لأنها تفتقر للنموذج الديمقراطي الذي يصلح للتعميم. وهي ثغرة يمكن أن تعوق تمدد بكين في أفريقيا وغيرها، حتى لو بدت تجربتها الاقتصادية المتطورة وتصوراتها السياسية الصارمة تروق لبعض زعماء دول القارة.
تريد شعوب الدول الأفريقية نهضة اقتصادية تخرجها من الفقر إلى الرفاهية. تجري وراء الحداثة التي تمكنها من إنهاء التوترات والحروب، وترى أن التطور الديمقراطي الطريق الوحيد القادر على تجاوز الأزمات الناجمة عن هذه الحالة، وصهر الجماعات العرقية المتنوعة في بوتقة احترام حقوق الإنسان وتقديس الحريات والإعلاء من شأن المواطنة الغائبة.
ظهرت تجارب اقتصادية وسياسية واعدة، لكنها بقيت ناقصة أو مبتورة. لم تحقق التطور المتوازن على هذين المستويين. فإذا تقدم الأول تراجع الثاني. وإذا تقدما معا أرخت مشكلات أمنية بظلالها على المشهد العام، بما يعوق الوصول إلى الدولة “القُدوة” أو الملهمة في أفريقيا، التي تحتاج بيئة مناسبة لرعايتها، وتوفير العوامل اللازمة لتجسيد نموها.
قد يكون السودان هذه الدولة الغائبة في القارة، إذا مضت عملية التوافق السياسي بين الأطراف العسكرية والمدنية إلى سبيلها الإيجابي، بعد أن قاد التفاهم إلى توقيع اتفاق لتقاسم السلطة، يؤدي نجاحه في النهاية إلى تحاشي سنوات الفشل الماضية بكل ما تنطوي عليه من إخفاقات سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية.
لدى السودان فرصة كشفها اهتمام إقليمي ودولي كبير لتخليصه من تحالف العسكريين والإسلاميين، وتوفير أجواء داخلية جيدة لتفكيكه، وقدمت وعود صريحة وضمنية لتخطي صفحته. وثمة تعهدات بمساعدة السودان اقتصاديا لإخراجه من أزماته المتراكمة، إذا نجح في توفير السلام الشامل، وأنهى الحلقات القاتمة من المعارك التي سادت ربوعه.
يمتلك السودان موقعا مميزا في القارة، وموارد طبيعية لم تستغل بعد، وتاريخا طويلا في التعاطي السياسي، وطيفا واسعا من النخب الواعية. وبات محطة مهمة في صراعات قوى إقليمية ودولية مختلفة، في ظل التفكير فيه كمركز للعديد من المشروعات التنموية.
قدم التعامل مع الأزمة الأخيرة صورة جيدة للتفاهم السياسي على قاعدة التنازلات المتبادلة وتغليب القواسم المشتركة، لفتت انتباه بعض الدوائر للتفكير في أن يصبح السودان النموذج. ويبقى أن عليه النجاح في استكمال تنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية المنوط بها تهيئة البلاد للدخول في مرحلة من الأمن والاستقرار، وما يستلزم من ضوابط محكمة ونزيهة في السياسة والاقتصاد وملحقاتهما، وكل ما يحملانه من مصداقية وشفافية.
بدأت قوى كثيرة تعمل على غلق صفحات الحروب الإقليمية. وأخذت دول متعددة تجتهد لدخول النادي من أبوابه التنموية وما تحتاجه من بيئة مواتية عمادها الاستقرار. ولعل محاولات إثيوبيا في هذا المجال مؤخرا تقف شاهدا على الرغبة العارمة. وكان من الممكن أن تصبح نموذجا غير أن مشكلاتها الداخلية والخارجية بحاجة لوقت لحلها، ما يحد من الطموحات التي راهنت على أنها الدولة المركز في المنطقة حاليا.
يرى سودانيون أن أمامهم فرصة كبيرة لتجاوز عقود الجفاف. ولذلك تراجع جزء كبير من خلافهم السياسي والاجتماعي، وحتى المحاصصة كقاسم في الخطاب السوداني تم تجاوز محدداتها التقليدية في تشكيل المجلس السيادي والحكومة وتغليب فكرة المواطنة. ويحدو الأمل قوى سياسية من ألوان متنوعة ليكون بلدها النموذج الذي تصنعه بنفسها، دون رعاية مباشرة من قوى خارجية. فقد فات الأوان الذي تتم فيه صناعة الدول على مقاس قوى كبرى وتدشينها لأهداف استراتيجية جماعية.
يمكن أن يحظى السودان بمساعدات قوى مختلفة لتطوير هياكله ودعم تقدمه، طالما أنه قادر على مواجهة التحديات، ويملك من المقومات ما يساعده على مجابهتها والتغلب عليها، لأن الدول العاجزة والمستسلمة تنخر فيها الصراعات، وتتصاعد فيها تصفية الحسابات الخارجية. ومر السودان بتجربة قريبة من ذلك طوال عهد الرئيس المعزول عمر حسن البشير، عندما استهوته لعبة الانحياز لدول على حساب أخرى، وكادت تقضي الانتهازية السياسية على مستقبل البلاد.
تحاول النخبة السودانية الاستفادة من دروس الأزمة الأخيرة والبناء على نتائجها، وعدم العودة إلى الفشل، وتحقيق تقدم شامل باعتباره فريضة تقطع الطريق على الأجسام الغريبة التي تنشر التطرف كآفة تخرب المجتمعات، وتقلق روافده قوى كثيرة في العالم، بعد أن تحول السودان في عهد البشير إلى ملاذ آمن لقيادات متشددة، ومنه بدأت تبث سمومها في دول المنطقة.
يمكن أن يصبح السودان نموذجا مضيئا وحداثيا في أفريقيا. ويمكن أن يكون نموذجا مظلما ومركزا للتخلف. الكرة في ملعب من يديرون معادلة السلطة ومن يشاركون فيها إيجابا أو سلبا من قوى معارضة. إذا كانت فرص الفريق الأول متفوقة على الثاني حاليا، فعلى أصحابه تقديم التطمينات الواجبة والإنجازات السريعة لزيادة رقعة المساندة في الداخل والخارج.