فاروق يوسف يكتب:
فنسنت دائما وأبدا
تجد المتاحف مسوغات مقنعة للعودة إلى الهولندي فنسنت فان غوخ. لا فرق بين فنه وحياته. كلاهما الشيء نفسه. فنسنت هو ساحر مرحلة ما بعد الحداثة غير أنه الممهّد لها بطريقة مأساوية.
لقد قطع الرجل الذي لم يعش طويلا (37 سنة) ولم يرسم سوى في العشر سنوات الأخيرة من حياته، بالرغم من غزارة إنتاجه الطريق أمام المدارس الفنية المكرّسة في زمانه وبالأخص المدرسة الانطباعية، وكان من الممكن أن يلحق به فراغا هائلا لولا ظهور الفرنسي بول سيزان.
صنع فنسنت من قدره المواد الخام التي عجنها بمواد الرسم ليصل إلى طريقة في الرسم، لم يسبقه إليها أحد. كان تأثّره بالمحفورات الخشبية اليابانية حاسما في ذلك المجال، غير أن النتائج الجمالية التي توصل لها كانت عصيّة على اليابانيين الذين لا يخلو معرض من معارضه من الآلاف منهم.
كان عليه أن ينزع عنه ثيابه الأوروبية من أجل أن يخلص إلى رغبته بالتحليق بألمه بما يهب ذلك الألم نوعا من النبوغ الإنساني. كان نابغة في تحليل المصادر الطبيعية لنشوة الوجود. وهو ما جعل منه رسولا لعذاب لا يمكن إدراكه إلاّ عن طريق التلذّذ الجمالي.
مفارقة سيكون فنسنت ضحيّتها فيما يرتقي الآخرون عن طريقها السلالم التي تؤدي بهم إلى ملاقاة أرواحهم في لحظة صفاء نادرة من جهة تمردها. الرسام الذي عاش حياته فقيرا يهب البشرية غنى روحيا لا ينفد.
ثروات فنسنت لا يمكن استهلاكها، لأن هناك حاجة بشرية توسّع من حجمها. ميزة فنسنت أنه لم يشك من عزلته وألمه وعذاباته بل صنع منها دافعا لاكتشاف مواقع جديدة للجمال. وهي مواقع لا تزال تتمتّع بسحرها ولا تزال نبوءاتها تقيم في مستقبل الإنسان.
لذلك فإن العودة إليه لا تحتاج إلى أسباب. فهي أشبه بالرغبة في التطهر. وهو ما يمكن قوله تعليقا على المعرض الضخم الذي يقيمه تيت بريتان في لندن استذكارا لزيارة قام بها فنسنت للندن قبل أن يحترف الرسم.