فاروق يوسف يكتب:

متاهة العراق المفتوحة على المفاجآت

منذ أن غزت الولايات المتحدة العراق وأسقطت دولته عام 2003 صار الوضع السياسي هناك مفتوحا على كل أنواع المفاجآت الرثة.

ما تُسمى بـ”الطبقة السياسية” هناك هي عبارة عن تجميع عشوائي لعدد من العاطلين والجهلة والفاشلين من الحزبيين وقطاع الطرق ممن وجدوا في فوضى الاحتلال فرصة للقفز إلى المناصب الرئيسة في دولة لم يعد لها وجود، وليتمكنوا من خلالها من إقامة نظام محاصصة ضمن لهم ولعوائلهم وقبائلهم وأتباعهم الاستمرار في الحكم بحماية مزدوجة أميركية- إيرانية، كانت ولا تزال الحائط الذي يسندون إليه ظهورهم وهم يمارسون عمليات فساد مالي غير مسبوقة في التاريخ من جهة حجمها.

في ظل تلك الحماية لم يعد الحديث عن سياسة عراقية مستقلة إلا نوعا من السخرية من السياسة التي التهم الاهتمام بها الجزء الأكبر من حياة العراقيين، من غير أن يفلحوا في أن يصلوا إلى معناها الصحيح وقيمها الحقيقية، بحيث صارت مهنة لمَن لا مهنة له من رجال الدين وأفراد العصابات الدينية والجنود الهاربين من الخدمة العسكرية والباعة المتجولين ممّن لم يخدموا في وظيفة حكومية من قبل. تلك المعطيات صنعت وضعا غرائبيا فريدا من نوعه.

فالمناصب الحكومية التي صارت تُباع وتُشترى لا يملك أصحابها ما يؤهلهم للقيام بدور سياسي، هم في غنى عنه ما دام العراق الجديد واقعا في قبضة الميليشيات التي صار زعماؤها يتصدرون المشهد السياسي.

لقد أعفي سياسيو العراق الجديد من ممارسة السياسة واكتفوا بألقابهم باعتبارهم زعماء الوضع القائم. وهو وضع لا ينبئ بأيّ إمكانية لقيام دولة في الوقت المنظور. كما أن أحدا من أولئك “السياسيين” لا يمكنه أن يقدم دليلا واحدا على أن العراق يمكنه أن يستعيد شيئا من بنيته كدولة مدنية، ينعم مواطنوها بشيء من إنسانيتهم.

أخطر ما فعله سياسيو الوضع القائم أنهم أفقدوا العراقيين إنسانيتهم. وهو ما يمكن تلخيصه بشعور العراقي بالنقص في مواجهة عالم يسعى إلى عزله وتكريس الظلم الذي لحق به.

هناك “عدوانية وهمجية وقسوة” صارت بمثابة مقياس لعلاقة العراقي بالآخر ومن خلاله بالخارج الذي يشعر أنه أدار له ظهره.

فحين يرى العراقي أن مجلس النواب، وهو المجلس التشريعي الذي يسن القوانين ويراقب أداء الحكومة، يتكون من أميين وقتلة ولصوص وتجار مخدرات وجواسيس ومزوري شهادات وأصحاب صالات قمار ودور دعارة، فإنه يشعر باليأس من نفسه ومن مستقبله ومن العالم. صارت جزءا من الماضي صورةُ العراقي معتدّا بنفسه رافعا لواء كرامته.

لقد تم إذلال العراقي بطريقة ممنهجة. فالنموذج الذي يقدمه السياسي العراقي هو تكريس للفشل الذي صار عنوانا للنجاح في دولة فاشلة. تلك الدولة التي لم تعلن بعد عن هويتها. دينية هي أم مدنية؟ ولا تزال الميليشيات فيها قادرة في لمح البصر على إسقاط الحكومة، ناهيك عن أن رجال الدين صاروا يتمددون بسلطتهم من خلال العودة إلى الأنظمة العشائرية. كل ذلك أدّى إلى أن يفقد العراقي مواطنته. لم يعد العراقي مواطنا وفق مواصفات المواطنة في العصر الحديث.

وهكذا يكون الوضع السياسي الرث قد صنع مجتمعا رثا. لا تنفع في ذلك محاولات العراقيين في الدفاع عن إنسانيتهم من خلال الموسيقى والرواية والشعر والمسرح وهوسهم الاستعراضي بالكتب. هناك قوة عمياء تجرّ البلد إلى مستنقع لا قرار له.

لقد أتيحت للفاسدين فرصة تهديم الاقتصاد العراقي. لم يعد هناك اقتصاد عراقي حقيقي وهو ما يمكن أن يُفهم من خلال العودة إلى انسداد الأفق في الحياة السياسية.

العراق الجديد هو متاهة تشعبت دروبها وليس هناك من أمل في خروجه منها. دائما ستكون هناك مفاجآت، غير أنها للأسف لن تكون سارّة.