محمد أبوالفضل يكتب:
تصحيح المسار بين مصر والسودان
تبدو الظروف مواتية لتصحيح الكثير من المسارات الخاطئة والشائكة في العلاقة بين القاهرة والخرطوم. وهيأ السودان الجديد، بمجلسه السيادي وحكومة الكفاءات ونخبته السياسية ومثقفوه وشعبه الطيب، المجال لاتخاذ خطوات كبيرة لتعزيز المصالح المشتركة. ودحض حملة التشكيك التي شنها محسوبون ومتعاطفون مع النظام السابق على مصر مؤخرا، على الرغم من عزل الرئيس عمر البشير وابعاد رفاقه المؤثرين عن صناعة القرار.
تتعامل السياسة المصرية حاليا بإيجابية واضحة مع المعطيات السودانية، ونجحت في ضبط الكثير من الأمور المختلة التي عكرت صفو العلاقات فترة طويلة، وأحدثت توازنا كان غائبا لزمن في التوجهات مع القوى السياسية والمؤسسة العسكرية.
أكدت التصورات والتحركات الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، والقبول بخيارات الشعب السوداني، والمساعدة في استرداد عافيته والحفاظ على وحدة أراضيه، أملا في تأسيس صحيح لعلاقات تنطلق من قواسم مشتركة كثيرة ومتشعبة. وظهرت تجليات هذا التوجه في محطات دولية وإقليمية وثنائية.
على المستوى الدولي، تتبنى مصر، ودول عديدة، رفع إسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب. وقامت بخطوات كبيرة في هذا المضمار مع الولايات المتحدة، لأنها تمثل نقلة نوعية في سجل الخرطوم الجديد في واحدة من الملفات الحرجة التي انعكست تأثيراتها سلبا على علاقاتها الخارجية، ووضعتها في مربع الداعمين للمتطرفين والإرهابيين، وكبدت البلاد خسائر اقتصادية فادحة، حيث حال وجودها على اللائحة الأميركية دون دخول الكثير من الاستثمارات بسبب قيود دولية عديدة، بما زاد من معاناة الاقتصاد.
يؤدي رفع إسم السودان قريبا إلى منافع متباينة، وينهي تماما العقوبات التي طالته من الولايات المتحدة وغيرها، ويمنحه شهادة صلاحية في ملف مكافحة الإرهاب الذي كانت تصرفات البشير ومعاونيه سببا رئيسيا لجره إلى مستنقع دفع السودان وشعبه ثمنا باهظا خلال السنوات الماضية.
على المستوى الإقليمي، ساهمت رئاسة مصر للدورة الحالية للاتحاد الأفريقي في تخفيف الضغوط السياسية الواقعة على السودان عند تجميد عضويته في الاتحاد بقرار من مجلس الأمن والسلم الأفريقي. ومنحته الجهود المصرية على الصعيد القاري مهلة زمنية أطول لترتيب أوضاعه وتشكيل حكومة مدنية في هدوء، تعكس الحراك الثوري وأهدافه وتطلعاته المستقبلية، ثم استعادة الخرطوم لدورها في الفضاء الأفريقي بعد انقضاء فترة التجميد قبل أيام.
يقود التقارب على الساحة الأفريقية، حيث يعطي البلدان أهمية قصوى لها، إلى تبني سياسات ناجحة تنهي مرحلة استمرت سنوات من الانكماش مع دولها، تعرضت خلالها مصالح الدوليتن لأضرار بالغة. وقد أصبحت هذه القارة فضاء رحبا لكلاهما.
من المنتظر أن تشهد اقبالا سريعا عليها. وتأكد الطرفان أنها تمثل العمق الإستراتيجي الحقيقي الذي يجب الحفاظ عليه وتطوير العلاقات معه. وكلها علامات يمكن أن تعبد الطريق للتوافق حول أفضل وسيلة للاستفادة من شريان مياه النيل بدون الاعتداء على حقوق الآخرين.
على المستوى الثنائي، استقبلت القاهرة عبدالله حمدوك رئيس حكومة السودان وهي عازمة على النظر للأمام بما يعزز الأواصر السياسية، ويقود إلى وضع ثوابت للعلاقات الإسرتاتيجية. وتكشف هذه المحطة طبيعة الأولويات لدى الدولة السودانية الجديدة، بما يؤكد الأهمية الحيوية لدول الجوار، ويدفع نحو تطويرها على أساس جملة من المصالح المفيدة لكل الأطراف التي تجد في الهدوء والاستقرار والسلام والمشروعات التنموية مدخلا عاقلا لتعظيم الروابط الإقليمية.
ساعد تغيير النظام السوداني وطي الصفحة السابقة القاتمة على إعادة النظر في بعض القضايا، وأزال قدرا من الالتباس والحساسية التي تعمدت الحركة الإسلامية وجسمها السياسي حزب المؤتمر الوطني إشاعتهما، كمهيمنين على الحكم في الخرطوم ابان عهد البشير، حيث استثمر هذه الورقة لمنع استقرار العلاقات مع مصر، ومحاولة استفزاز الشعب السوداني ودفعه لتتبنى قطاعات عريضة فيه مواقف مغرضة تقف حائلا أمام التفاهم في بعض الملفات الخلافية.
قدمت مصر مجموعة مهمة من الرسائل والأدلة السياسية التي تعزز التجاوب مع السلطة الانتقالية في السودان، منها استقبال الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي في القاهرة مؤخرا، وهو أيضا رئيس تحالف نداء السودان الذي يضم عددا من الأحزاب والحركات المسلحة المنخرطة في قوى الحرية والتغيير التي قادت الحراك الثوري. وسمحت له بعقد ورشة عمل طويلة حول السلام الشامل إنطلاقا من الأرض المصرية. وهي إشارة كفيلة وحدها بتأكيد النوايا الحسنة حيال السودان.
علاوة على عزم الجبهة الثورية التي تضم فصائل مسلحة نشطة في إقليم دارفور وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، على عقد اجتماع قريب في القاهرة، ضمن المساعي الرامية للتوصل إلى تفاهمات مع السلطة الانتقالية حول مرتكزات السلام وتطبيقه في ربوع السودان.
يُضاف إلى اجتماع سابق عقد أيضا في القاهرة بين قيادات الجبهة الثورية وقوى الحرية والتغيير، قبل تشكيل الحكومة الحالية، وزيارات متعددة لشخصيات لعبت دورا مهما في الثورة السودانية وتنتمي لأحزاب ومشارب سياسية مختلفة.
تفتح هذه العلامات الباب على مصراعيه لتجاوز العقبات التي منعت التقارب بين البلدين في العهد البائد الذي سعى إلى ترسيخ صورة تاريخية خاطئة تستفز شرائح كثيرة من الشعب السوداني، وأراد أن تظل الشروخ الوهمية والحقيقية على حالها دون أن يتخذ خطوة واحدة لإذابتها، بل صد الكثير من الخطوات التي أرادت ذلك، معتقدا أن استمرار التوتر يمثل ركيزة لبقاء الإسلاميين في الحكم، ومنع تسليم القاهرة مطلوبين في جرائم إرهابية.
رشحت معلومات مؤخرا حول عزم الخرطوم ترحيل إرهابي يدعى مدين إبراهيم محمد حسنين، وهو قيادي في تنظيم ما يسمى بأنصار الشريعة، ومن العناصر التي يريد الأمن المصري القبض عليها، وأدين في قضية إغتيال عدد من أفراد الشرطة في محافظة الشرقية وتم الحكم عليه بالسجن 15 عاما، وهرب خارج البلاد عقب عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي، ووجد ملاذا آمنا في الخرطوم، ضمن آخرين، رفض النظام السوداني تسليمهم لمصر، وتمتعوا بحرية الحركة، وبعضهم حصلوا على جوازات سفر سودانية، أو تم تهريبهم إلى تركيا.
أمام النظامين الحاكمين في البلدين فرصة جيدة من الضروري عدم تفويتها، واستثمارها بصورة دقيقة وعميقة كفيلة بغلق أبواب ونوافذ هبت منها عواصف سياسية وأمنية كثيرة، جعلت الحديث عن تطور العلاقات دربا من الخيال.