علي قاسم يكتب:

يوم أغضب شيراك التونسيين

أثار الرئيس الخامس للجمهورية الفرنسية، جاك شيراك، موجة من الاحتجاج، أثناء زيارة قام بها إلى تونس عام 2003، عندما قال إن أول حق من حقوق الإنسان هو تناول الطعام والعلاج وتلقي التعليم والحصول على مسكن، وإن النظر للأمر من هذه الزاوية، يوجب الاعتراف أن تونس تتقدم بأشواط عن دول عديدة.

صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية رأت في التصريح حينها، تبييضا لنظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي. ولم ينجُ شيراك من نقد منظمات المجتمع المدني، التي رأت هي الأخرى أن الخطاب اتسم بالازدواجية والإحباط، وأن الخاسر الأكبر من الموقف الرسمي لفرنسا هو الشعب التونسي.

ردود الأفعال التي رافقت التصريح، اضطرت شيراك، لتقديم تفسير يوضح أقواله، معتبرا أن تصريحه عن الحريات وحقوق الإنسان في تونس، أسيء فهمه، وأن حقوق الإنسان كل لا يتجزأ.

بعيدا عن الإعجاب الذي حمله شيراك لتونس، وحصوله على وسام الجمهورية التونسية من الصنف الأكبر عام 1986، زمن الحبيب بورقيبة، وحصوله على نفس الوسام بصفته رئيسا لفرنسا عام 2003، هل ما قاله عن حقوق الإنسان في تونس خاطئ؟

اعتبر شيراك أن تأمين الطعام والعلاج وتلقي التعليم والحصول على مسكن، أول حق من حقوق الإنسان، ولم يقل إن ذلك كامل حقوق الإنسان. وأن العدالة الاجتماعية تقتضي تلبية تلك الحقوق الأساسية أولا، بعدها يمكن الحديث عن الحقوق الأخرى، والتي هي حقوق معنوية بالدرجة الأولى.

حرية الرأي والاعتقاد خدعة، إن لم تسبقها تلبية الحقوق المادية، التي تحرر الإنسان من الحاجة.. كيف للجائع والمشرد والضعيف أن يكون حرا!

التونسيون، أمام الفشل الاقتصادي للحكومات المتعاقبة بعد الثورة، حددوا أولوياتهم، لتصبح القفة والعلاج والتعليم والعمل والسكن اللائق، المعيار الذي يقيمون به أداء السياسيين. صحيح أن الخبز وحده لا يكفي لكي يحيا الإنسان، ولكن الإنسان الذي لا يحصل على كفاف يومه من الخبز، لن يستطيع المطالبة بحقه في حرية التفكير والتعبير، وهو إن طالب به وحصل عليه، لن يستطيع صونه والاحتفاظ به. الجائع قد يضطر لمقايضة الكتاب بالخبز، وهو عرضة للابتزاز مقابل وعود غالبا لن تنفذ.

ما هي أولويات شباب تونس، بعد أن وفرت لهم الثورة مساحة كبيرة من الحرية والديمقراطية، وبات بمقدورهم توجيه النقد للمسؤولين، بدءا من قاعدة الهرم وصولا إلى قمته؟

أولويات الشباب كشفت عنها خياراتهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حين تخلوا عن اليسار والوسط واليمين، واختاروا مرشحَين مستقلين بضاعتهما لا علاقة لها بالشعارات.

حرية الرأي والاعتقاد في تونس اليوم متاحة للجميع، والدليل عشرات الأحزاب ووسائل الإعلام، تكتب ما تريد دون رقابة، بما فيها رقابة الضمير، والذين لا يجدون طريقا إلى وسائل الإعلام، لديهم الانترنت ومواقع التواصل، التي كان لها الكلمة الفصل في تحديد مصير زعماء سياسيين تاريخيين.

أولى حقوق الإنسان التي تحدث عنها شيراك، مثيرا غضب اليمين واليسار، هو حق بات الشباب يقايضون من أجل الحصول عليه بكل ما يملكون.. فيزا، تفتح لهم باب الهجرة إلى أوروبا، إن لم يحصلوا عليها، رموا أنفسهم على متن أول زورق متهالك، يعبر بهم البحر المتوسط للمجهول.

في أقل من 24 ساعة تم تسجيل 15 عملية “حرقة” من شواطئ تونسية نحو جزيرة لامبيدوزا، حسب مصادر تونسية، حيث تمكن الحرس البحري من إيقاف عدد من المراكب، بينما نجح آخرون في الوصول إلى الجزيرة الإيطالية. ومن بين التونسيين “الحارقين” أطفال ورضّع ونساء حوامل وشباب لم تتجاوز أعمارهم العشرين عاما، غامروا بحياتهم ليس بحثا عن حرية التعبير، ولا طلبا للديمقراطية، بل بحثا عن خبزهم وكفاف يومهم.

حرية الرأي وحرية الاعتقاد والتفكير، قضايا جوهرية ناضل الإنسان من أجلها طويلا. ولكنها تشكل نصف الحقيقة، النصف الذي استطاع التونسيون انتزاعه. أما النصف الثاني، فهو الحق في أن يكون الإنسان إنسانا. الحق في العمل والعلم والصحة.

بعد تسع سنوات من الثورة، يعلم التونسيون أن شيراك كان على حق، وأن الحرية لا تكون لإنسان جائع، وهو إن حصل عليها قد يضطر، تحت ضغط الحاجة، للتفريط فيها وبيعها لمقاولي السياسة وتجار “الحرقة”.. حقوق الإنسان، كما عاد شيراك وفسر، كل لا يتجزأ.

الرئيس الخامس للجمهورية الفرنسية، الذي ودعه العالم مؤخرا، على حق.. ليس بالديمقراطية وحدها يحيا الإنسان.