فاروق يوسف يكتب:
سبهان آدم موهبة استثنائية صنعت ظاهرة
عُرف المحترف الفني السوري بانضباطه من خلال التزامه بقوانين صارمة. حتى المتمردون الكبار من أمثال لؤي كيالي ومحمود حماد وفاتح المدرس كانوا حريصين على أن تنسجم صرخاتهم المتمردة مع إيقاعهم الذي ضم أطيافا واسعة من الأساليب والتقنيات التي كان يجمع ما بينها إخلاصها للحرفة بكل ما تنطوي عليه من أسس ثابتة.
غير أن سبهان آدم ظهر بغتة وفاجأ الجميع من غير أن يتخيل أن ظهوره سيكون صادما. لم يرحب به أحد من داخل المحترف الفني. وإذا ما كان “النبذ” متوقعا فإن مقاومة ذلك النبذ لم تكن فعلا يسيرا. كان على الفتى القادم صغيرا من الحسكة، شمال البلاد أن يقاوم دمشق بقدر ما كان يحبها ويحتاج إليها. لم يكن في ذهنه أن يُعتبر هادما للمعبد فيُرجم.
خطيئة آدم أنه لم يكن ذلك الابن المدلل للمحترف الفني السوري. فهو لم يتعلم الرسم في مدارس دمشق ولم يقلد رساما سوريا ولم يحبب رسومه من خلال وحدات يستعيرها من التراث الشعبي ولم يكن خائفا من التعريف بتجربته الفنية باعتبارها صنيعة عزلته الفاتنة.
ومثلما أتى آدم من خارج المحترف الفني السوري فقد أتى دعمه وتشجيعه والثقة بتجربته الفنية من خارج ذلك المحترف. كان المفكر الراحل أنطوان مقدسي سنده الأول الذي ساعده على إقامة معرضه الشخصي الأول في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق. يومها التفت إليه البعض وصار الحديث ممكنا عن الشاب الذي أطاح بالوصفات الفنية الجاهزة.
كان آدم ينتظر تلك الفرصة لينطلق مثل صاروخ عابر للقارات. غزارته في الإنتاج وتنوع أساليبه ووحشية موضوعاته وحداثة تقنياته، كلها أمور ساعدت على انتشار فنه والإقبال عليه من قبل صالات العرض المحلية والعربية والعالمية، بحيث صار عبر سنوات قليلة اسما مشهورا بل تحول إلى ظاهرة فنية فريدة من نوعها.
مصير كائناته الغريبة
تلك الظاهرة لا تزال تقع خارج المحترف الفني السوري بالرغم من أنها تخطته وصارت تقدمه على مستوى عالمي. فعقدة أن آدم ليس ابنا للفن السوري كما هو في قوالبه لا تزال قائمة. لذلك فإن الفتى الذي جاء إلى دمشق وحيدا لا يزال يعاني من الوحدة، بالرغم من أن شهرته اكتسحت الآفاق وصارت صالات العرض تتنافس على تبنيه بسبب ارتفاع أسعار أعماله.
ليس صحيحا ما يُشاع من أن آدم حضر إلى الفن بالموهبة الفطرية وحدها. فالفنان الذي علم نفسه بنفسه جاء إلى دمشق وفي أعماقه مفهوم مختلف للفن هو حصيلة ثقافة فنية مضادة، كانت تقف وراء ذائقته المتمردة على ما هو سائد. وهو ما صار واضحا بعد أن أقام عشرات المعارض لأعماله وبعد أن صار صوته مسموعا.
لقد أنصت آدم لصوته. هذا صحيح. غير أن الصحيح أيضا أنه أنصت إلى الأصوات التي تشبه صوته في العالم. وهنا تقع أوجه الشبه بين تجربته وتجارب عدد من الفنانين العصاميين الذين شقوا طريقهم إلى الشهرة في العالم وفي مقدمتهم الأميركي باسكيات. تلك علاقة لا يمكن اختزالها عن طريق تسطيحها كما لو أنها كانت نوعا من التبعية.
منذ البدء أبهرته تلك التجارب فحلم بأن يجد لتجربته مكانا بينها. وهو ما نجح في القيام به، من غير أن يقلد أحدا. ذلك المسعى يسر له الانفتاح على رؤى فنية عالمية شحنته بطاقة خلاقة ما كان في إمكانه الحصول عليها لو أنه تخلى عن جموحه البري وأظهر نوعا من الطاعة للأساليب الفنية الجاهزة التي شكلت أسسا للمحترف الفني السوري.
آدم ظاهرة فيها الكثير من الغرابة والاختلاف والاستثناء. من ذلك أنه أقام عام 2010 معرضا استعاديا لأعماله التي أنجزها ما بين سنتي 1996 و2009. تلك تجربة لا يقدم عليها سوى فنانين كبار "في السن والقيمة"
فضل أن يكون خشنا ويدفع ثمن خشونته نبذا وإقصاء وعزلة على أن يحصل عن طريق نعومة زائفة ومضللة على اعتراف يمهد أمامه طريق الانضمام إلى المحترف باعتباره ولدا مطيعا. ولم تكن الشهرة يومها مضمونة. وهو ما يعني أن كل شيء جرى انسجاما مع موقف اتخذه آدم من فنه ومن المشهد الفني في الوقت نفسه. كان كمَن يكتب وصيته من غير أن يلتفت إلى ما يقع من حوله. يعيش عالمه الخاص على جزيرة تتشكل بين يديه.
أثبت آدم من خلال نجاح تجربته أن الاختلاف هو وسيلة الفن الحي لصنع مستقبل أفضل لكائناته، المنتجة والمرسومة على حد سواء. فالكائنات التي رسمها صارت جزءا من الواقع ومن ذاكرة الفن كما هي كائنات فاتح المدرس ومروان قصاب باشي.
الإنجاز صانع الشهرة
ولد سبهان حسين محمد، وهو اسمه الحقيقي، عام 1973 في الحسكة شمالي سوريا. لم يتعلم الرسم مدرسيا وغادر المدرسة بعد أن أنهى المرحلة الإعدادية. في العام 1989 أقام معرضه الشخصي الأول في الحسكة، غير أنه يعتبر المعرض الذي أقامه في المركز الثقافي الألماني “غوته” بدمشق عام 1995 هو معرضه الأول. ذلك المعرض وضعه في مواجهة الوسط الفني الذي رفض الاعتراف به ونبذه. يومها كان آدم يكتب الشعر، غير أنه وجد نفسه في الرسم وترك الشعر.
منذ البدء تميز آدم بغزارة إنتاجه فهو يعمل حوالي عشرين ساعة في اليوم لذلك كثرت معارضه التي جلبت له الشهرة خارج سوريا. بقوة تلك الشهرة فرض وجوده على المشهد الفني السوري.
آدم ظاهرة فيها الكثير من الغرابة والاختلاف والاستثناء. من ذلك أنه أقام عام 2010 معرضا استعاديا لأعماله التي أنجزها ما بين سنتي 1996 و2009. تلك تجربة لا يقدم عليها سوى فنانين كبار “في السن والقيمة”. وهو الشرط الذي قفز عليه آدم. لا لشيء إلا لأنه ينظر إلى تجربته الفنية بطريقة مختلفة. فهو فنان عالمي. ذلك أمر مؤكد. أما أسعار لوحاته العالية فإنها تضعه في مصاف فنانين عالميين، الكثير منهم موتى. وإذا ما كان الشاعر السوري الكبير أدونيس قد كتب مقدمة الكتاب الأول الذي صدر عن تجربته، فإن نقادا عالميين مهمين كتبوا عن تجربته مقالات كثيرة في الصحف العالمية.
في غرفة "المسخ"
أقام آدم أكثر من سبعين معرضا، لم يفشل واحد منها في اجتذاب المشاهدين والمقتنين على حد سواء. لذلك فإنه يتعامل مع السوق بطريقة احترافية يحسده عليها الجميع. وهو في ذلك إنما يعتبر حدثا استثنائيا في تاريخ الحركة التشكيلية العربية.
يقول آدم “إن الكائن في لوحتي غير مؤذ، مشكلته مع نفسه فقط وليست مع الآخر. والتشوه في الكائنات يعبر عن أزمة الكائن البشري ومصيره المجهول” وهو في ذلك إنما يعيدنا إلى غريغوري سامسا بطل فرانتس كافكا في روايته “المسخ”.
خطيئة آدم أنه لم يكن ذلك الابن المدلل للمحترف الفني السوري. فهو لم يتعلم الرسم في مدارس دمشق ولم يقلد رساما سوريا ولم يحبب رسومه من خلال وحدات يستعيرها من التراث الشعبي.
“كائنات العزلة” كما يسميها تدور كلها في فضاء غرفة سامسا المغلقة التي أحدثت حلا عظيما في طريقة النظر إلى الإنسان في الرواية الحديثة. وهو ما استلهمه آدم تشكيليا حين جمع بين مؤثرات بصرية استقاها من تجارب فنانين عرب وعالميين سبقوه، فكانت لوحته تطويرا لما أدهشه في تلك التجارب التي لا يمكن العثور على شيء منها في أعماله بعد أن نجح في صهرها وإذابتها وإعادة تشكيلها.
آدم فنان ماكر. منذ البدء كان من الصعب عليه البقاء في لحظة تلصص. أما الآن فكل شيء ينسب له. إنه مبتكر حياة، تنبعث تفاصيلها من شارع العابد بدمشق حيث يقيم لتصل إلى العالم مباشرة محمولة على جناحي شهرة رسامها.