نهى الصراف تكتب:

كذب أبيض.. كذب رمادي

أكاد أجزم بأن بعض الصغار في عالمنا العربي تعرضوا لأول تهديد لفظي في حياتهم، على لسان الأهل الذين لم يجدوا وهم في صراعهم المرير لتربية أبنائهم وتأديبهم، أفضل من الكذبات “البيضاء”، لردع طفل بريء عن تكرار سلوك غير مقبول. بعض العبارات كانت هي المفضلة مثل “إذا واصلت عنادك ورفضت الذهاب للنوم فسأتصل بالشرطة”! أو “إذا لم تتوقف عن الصراخ.. فسأغادر المنزل وأتركك لتبقى وحيدا في الظلام”!

طبعا، ينسى بعض الآباء في خضم سعيهم المتواصل لتحصيل لقمة عيش يابسة في أوطان توفر كل شيء سوى لقمة العيش والكرامة الإنسانية، أن إنجاب الأطفال والتكفل بتربيتهم في مثل هذه البيئات الوطنية أمانة في أعناقهم، وللطفل عليهم حق توفير أبسط متطلبات الحياة إضافة إلى تربيته وفق أسس تضع إنسانيته وكرامته وحقوقه على رأس الأولويات، وإنه لا ذنب له مطلقا في أن يكون طفلا بائسا لأبوين لا يباليان به داخل بلد لا يشعر بوجوده.

تترك أساليب التربية الخاطئة آثارا مدمرة على شخصية الطفل، الذي يتطور إلى فرد بالغ يحمل في ذاته الكثير من سمات الأنانية والعدوانية وربما المخادعة.

أساليب التربية الخاطئة تترك آثارا مدمرة على شخصية الطفل، الذي يتطور إلى فرد بالغ يحمل في ذاته الكثير من سمات الأنانية والعدوانية وربما المخادعة

بالطبع هنالك فرق بين كذب أبيض وآخر رمادي، حيث يظهر هذا التمييز عندما يحاول الآباء إيصال رسالة تخويف حقيقية لفرض سلطتهم الأبوية على الطفل، فيقولون له مثلا “إذا لم تستمع للكلام فسنرميك للنهر وتأكلك الأسماك”! وهذا النوع من التعامل القاسي هو الذي يرتبط أكثر بالآثار النفسية المدمرة، أما الكذبات التي تتعلق بتقويم سلوك الطفل بطريقة الثواب والعقاب المعنوي، فلا ضرر كبيرا منها إلا إذا تجاوزت حدود العقاب الآني الذي يتمثل بالحرمان من الأشياء التي يحبها مثل أن تقول له الأم “لا مزيد من الحلوى هذا الأسبوع، لأنك لم تتصرف بصورة جيدة”.

وفي دراسة سنغافورية حديثة، أكد الباحثون أن لجوء الأبوين إلى أسلوب الكذب الأبيض مع الطفل يهدف بالدرجة الأولى لتلافي تضييع الوقت في الأخذ والرد معه دون نتيجة سريعة ومباشرة، لدفعه إلى تنفيذ التعليمات والتصرف بتهذيب، فيقرر الأبوان حسم الأمر والتنصل من المسؤولية بسرعة حتى يلتفتان إلى أمور تبدو أنها تشغلهما أكثر من الطفل.

وتكمن المفارقة هنا في أن بعض الآباء يتشدقون أمام صغارهم بالمثل العليا ويحثونهم على الصدق والأمانة، في الوقت الذي يرتكبون فيه هم أنفسهم صنوفا من الأكاذيب، الأمر الذي يوصل رسائل متضاربة للأطفال خاصة إذا انكشفت كذبات الأهل التي سرعان ما تتحول في أذهانهم إلى صور “خيانة”، أما خيانة الوالدين هذه فمن شأنها أن تؤدي إلى تآكل الثقة بين الطرفين وتنشئ جيلا من الأبناء الكذابين والمراوغين لا يترددون في تكرار ما تعلموه من آبائهم على أبناء الجيل الثاني فالثالث.

في حين، كان الأجدر بالآباء أن يستوعبوا شخصية الطفل منذ نعومة أظفاره، يقدرون إنسانيته ويحترمون مشاعره في شكل يمكنهم من طرح خيارات أخرى وحل مشترك للمشكلات للخروج بالنتائج التي يطمحون إليها، شرط ألا يمسوا أسس بناء شخصية الطفل ولا يصدعوا ثقته بنفسه وبالآخرين