فاروق يوسف يكتب:
غادة عامر الرسامة المصرية التي تناضل من أجل النسوية
منذ أن أصبحت “النسوية” قضية تمتزج من خلالها الرغبة في تغيير المفاهيم الثقافية المتعلقة بالمجتمع بالاحتجاج السياسي في تحد واضح للسلطة الذكورية كثر عدد النساء اللائي لم يعد مصطلح “فن المرأة” يسبب لهن أي شعور بالانزعاج والتمييز إذ لا يُقصد منه التقليل من قيمة أعمالهن الفنية كما كان يجري في الماضي.
المصرية غادة عامر هي اليوم واحدة من فنانات الصف الأول اللواتي يرفعن لواء “النسوية” من خلال إصرارها الصارخ على استعمال تقنيات “منزلية” في تنفيذ أعمالها كالحياكة والتطريز.
غير أن هناك جانبا آخر هو ما ميز فنها وجعله يسترعي اهتمام المحافل الفنية والصالات بل وحتى المتاحف. ذلك الجانب يتعلق بطريقة الفنانة في التعبير عن “الجنس” كونه اشتقاقا من وعي المرأة لجسدها. ذلك ما أضفى على أعمالها طابع الاستفزاز الثقافي. بالرغم من أن فنها لا يمكن القبول به من قبل مجتمعات محافظة وهو في الأساس غير موجه إلى تلك المجتمعات.
ما حظيت به تجربة عامر من اهتمام، هو من وجهة نظري مبالغ فيه، يسلط الضوء على جزء من آليات عمل المؤسسات الفنية في عصرنا حيث لم يعد المدهش يرتبط بقوة العمل التعبيرية ولا بقدرته على تغيير طريقة النظر إلى العالم من خلال رؤية جمالية جديدة بقدر ما صار مرتبطا بالأفكار الصادمة التي يطرحها العمل وهو يعالج مشكلات تشغل الرأي العام باعتبارها خروجا على ما هو سائد ومعترف به اجتماعيا.
على المستوى التقني وفي مجال اللجوء إلى استعمال الممارسة اليدوية التي كانت حكرا دائما على النساء هناك نماذج للفن النسوي متقدمة على تجربة عامر وسبقتها بأكثر من نصف قرن. أهمها تجربة الألمانية إيفا هيسه. غير أن زمن هيسه كما يبدو كان مختلفا عن الزمن الذي صارت فيه غادة عامر أشبه بالظاهرة الفنية.
فإضافة إلى أن اسمها قد أُدرج في قائمة الفنانين الذين صارت المؤسسات الفنية تستدعيهم في كل معرض تقيمه للفنون المعاصرة فإن متاحف كثيرة حول العالم احتفت بها وبأعمالها، وهو ما يعني أن أي رأي نقدي يسعى إلى كشف الحقيقة لا يمكن أن يحظى بترحيب وقبول المؤسسات الفنية التي صارت للأسف تأخذ في نظر الاعتبار ما يجري في المزادات لتحديد موقفها من الفنانين.
في خضم ذلك الوضع الملتبس يمكن القبول بفنانات من نوع تريسي أمين وشيرين نشأت وغادة عامر، باعتبارهن ممثلات للفن في عصرنا بالرغم من أن وجود كيكي سمث وسندي شيرمان يكشف عن فجاجة وسطحية تلك القناعة. الدعاية بقوة حيلتها ستغلب.
ولدت عامر في القاهرة عام 1963. غادرت مصر إلى فرنسا وهي في سن الحادية عشرة. تخرجت من معهد فيلا ارسون بنيس بعد أن درست الرسم هناك. حصلت على شهادة الماجستير من المعهد نفسه، وكانت قد حصلت على منحة للتدريب الفني في مدرسة متحف الفنون الجميلة ببوسطن عام 1987. ثم انتقلت للعيش والعمل في الولايات المتحدة.
إضافة إلى معارضها التي أقامتها في نيويورك فقد أقامت معارض شخصية في لندن وكاليفورنيا وفلنسية الإسبانية ونيو مكسيكو وكانساس كما ساهمت بعروض خاصة في بينالي ويتني بنيويورك وبينالي فينيسيا وبينالي جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا ولم يخل معرض للفنون المعاصرة من عمل لها حيث تحتل أعمالها موقع الصدارة من اهتمامات القيمين في المتاحف.
صحيح أن عامر عُرفت بطريقتها الخاصة في إنجاز لوحاتها غير أنها مارست فنون النحت والتجهيز والإنشاء والتصوير الفوتوغرافي والطباعة وتصميم الحدائق.
بالرغم من طغيان الفكر النسوي على أعمالها فإن عامر أنجزت أعمالا انطوت على صلة صريحة بعالم السياسة كتلك التي أنجزتها بعد أحداث 11 سبتمبر 2011 التي تتقدمها لوحتها “لغة الإرهاب” التي سعت من خلالها ومن خلال ما تبعها من إنشاءات للتعبير عن الفكرة التي تضمنتها جملتها “لم تتم فهرسة الإرهاب في المعاجم العربية” والتي نقشتها على الأكواب والمناديل والصواني الملحقة بالعمل.
وعلى صعيد آخر فقد شاركت الفنانة في تأثيث “ساحة الحب” بنيومكسيكو عام 1999 بعمل هو عبارة عن كرسي حديقة وإلى جواره وضعت لائحة مكتوبا عليها “في الحي الانتصارات والانكسارات هي المهمة. الباقي مجرد حشو”. غالبا ما يتذكرها منظمو المعارض التي تنظم بأفريقيا بالرغم من أنها لم تطرح في أعمالها فكرة تتعلق بالقارة السوداء. شيء لا يمكن فهمه.
حتى وإن لم يظهرن بشكل واضح فإن النساء حاضرات. إنهن يقفن وراء الستارة المزينة بالورود التي تذكر بما فعلته أيديهن وما حرك في خيالهن عاطفة من نوع مختلف. عالم غادة عامر يتألف من نساء. لا ذكر للرجل. لا أثر ولا ظل ولا ماض ولا هامش. العالم امرأة. كل الصفات التي تظهر على سطوح لوحاتها والتي تختفي تحت تلك السطوح تشهر عن أنثويتها الأحادية المجردة من أي طابع للانجذاب إلى الرجل أو محاولة جذبه إليها. العكس يحدث دائما. فالنظر يقع كما لو أنه يُمارس داخل غرفة مغلقة. العالم هو تلك الغرفة. الألوان الباردة تضفي على ذلك العالم الكثير من الهدوء والخفة والراحة. فليس ثم صراع. هناك فكرة قائمة على التأثيث. وهو ما يعني تجهيز العالم بأنوثة فائضة، بحيث يشعر المرء أن لا شيء ينقص المشهد، بالرغم من أحاديته من جهة الجنس البشري.
ترسم عامر، أوعلى وجه الدقة، تخيط أعمالها بعيدا عن أسطورة عالم النساء الوحيدات. فالمرأة في لوحاتها ليست وحيدة حتى وإن ظهرت لوحدها. هناك ما يؤنسها وهو من صنيعها. وهنا بالضبط يكمن النموذج المعاصر للمرأة المكتفية بذاتها. وهو نموذج يؤكد عليه الفكر النسوي من جهة كونه واحدا من أعظم الإنجازات السياسية في عصرنا.
إذا لم يقترب المرء من لوحات عامر فإنه لن يفهم شيئا في ما يتعلق بالأسباب التي تقف وراء عرضها في أكثر المناسبات أهمية والتي تُقام في أهم المتاحف والصالات في العالم.
قيمتها في ما يرجح تكمن في نسويتها. ولأن تلك القيمة تقع خارج الفن فإنها ليست مؤكدة تاريخيا. ذلك الحكم يمكن أن يشمل أعمال فنانات وفنانين معاصرين طبقت شهرتهم الآفاق غير أن مصير أعمالهم لا يزال محط شك بالرغم من أن تلك الأعمال صارت تُباع بأسعار باهظة. وهو أمر محبط حقا. ذلك لأن النقد الفني وقد مُنع من أن يقول كلمته قد يستعيد هيمنته على المشهد الفني فيهدمه ويفضح ما جرى من صفقات على حساب القيم الفنية الخالدة.
وهكذا فإن عامر تقف بفنها على الحافات.
ذلك موضوع شائك يمكنها القفز عليه ما دامت المتاحف والصالات العالمية لا تزال تهتم بأعمالها باعتبارها فنانة لا يمكن الاستغناء عنها. إنها تقدم ما يستهوي خبراء تلك المتاحف والصالات وهي موجودة لأن قيمي تلك المتاحف والصالات ما زالوا يعملون على نشر الفنون المعاصرة والتبشير بها. وما كان ذلك يحدث لولا قوة المال التي تطبق على عالم الفن من كل الجهات.
غادة عامر تناضل بفنها في عالم مجهول. لديها وهي التي تربت ودرست في الغرب من المعلومات ما يجعلها على دراية بكل شيء.