د. علوي عمر بن فريد يكتب:

هل الوطن هو الوثن المقدس ؟؟!!

في مقال ساخر ينضح بالألم بعنوان "الوطن الخدعة " للكاتب السوداني جلال الجاك كتب يقول :(في زمن قريش كان الكاهن يقول لعابدي الصنم : إن الصنم يطلب منكم بقرة حتى يلبي طلبكم !!!
وطبعا الصنم لا يتكلم، ومن يريد البقرة ويستفيد منها هو الكاهن !!
ولو قال الكاهن للناس أريد بقرة لي لما أعطاه إياها أحد , لذلك تكون الحيلة بإيجاد صنم يعبده الناس ويقدسونه ويموتون في سبيله ويعظمونه ...
ثم يتصدر الكاهن الحديث باسم الصنم .. ويدعو الناس لتقديس الصنم وتعظيمه ..
حتى إذا طلب من عابدي الصنم شيئا باسم الصنم , دفعوه للكاهن وهم فرحون بل ينتظرون من الكاهن أن يخبرهم بأن الصنم قد تقبل عطاءهم !!!)
أثناء ثورة التحرر العربي من الاستعمار والوصاية الأجنبية برز بقوة خطاب وشعارات (التضحية ) وتم تفعيل وترسيخ هذا الخطاب عبر الأغاني والأناشيد الوطنية والأدب والشعر وتسخير مفردات اللغة العربية ببلاغتها لاختزال الوطنية بشعار ( نموت.. نموت ويحيا الوطن ) !!
وقد شاع هذا الخطاب منذ الثلاثينيات وتحول إلى أحد أركان الأيدلوجيا للقومية العربية مثل ( الوطن العربي ) الممتد من المحيط إلى الخليج وامتلئ الفضاء العربي بالشعر والشعارات وجسد تلك المعاني شعراء مثل : شوقي ، والبارودي ، والشابي واستولت أشعارهم على أذهان الجماهير العربية ومنها ما قال شوقي :
لنا وطن بأنفسنا نقيه وبالدنيا العريضة نفتديه
وبعد الاستقلال طالبتنا الدولة الوطنية بالصبر والثبات والتضحية من اجل الوطن وبناء الدولة الوليدة وفي الوقت نفسه اعتبرت أن من يعارضها سياسيا يمثل تهديدا وجوديا للوطن والدولة وأحلت لنفسها استخدام كل ألفاظ التخوين ضدهم مثل : الطابور الخامس ، العملاء والخونة ، المرتزقة وأذناب الاستعمار !!
وتحولت حالة الوطن إلى ( الصنمية المقدسة ) مما جعل أنظمة الحكم المتعاقبة ما بعد الاستعمار تكرس سلطتها الديكتاتورية القمعية!!
ولم يستمر هذا التأكيد على قيم الوطنية وثقافتها لدى المواطن العربي بالقوة ذاتها خاصة بعد تعرضها للأزمات السياسية والاقتصادية التي وقعت فيها تلك الأنظمة الشمولية والديكتاتورية وقد نتج عن ذلك حالات اليأس والإحباط من الواقع السياسي والاقتصادي المتردي مما أدى إلى التشكيك بالقيم الكبرى التي تربت عليها الأجيال الجديدة، التي تحب قراها ومدنها ووطنها وترابه التي ولدت عليه ولكن تلك الأجيال الشابة صدمت من الواقع المر الذي أل إليه الوطن وسرعان ما ودعت براءتها وطفولتها لتواكب الواقع المر والأليم وأصبح كل ما رددته من أناشيد في مدارسها الأولية مجرد أوهام تناقض واقعها وتنبهت أن أولئك الأدعياء للوطنية قد استغلوا براءتهم حتى أصبحوا يصدقوا تلك الخرافات وعرفنا أنها تستغل الإقصاء والعنصرية ضد كل من يخالف أولئك المتنفذين الذين يسعون لترسيخ سلطتهم باسم الوطن وهنا انقل لكم رسالة مؤثرة لشاب عربي مات غرقا في قوارب الموت بسواحل ليبيا اسمه رشيد مستور كتب يقول :
(«سنغادر هذا الوطن عاجلاً أم آجلاً، سنغادره ليس حبًا في أوطان غيرنا، سنغادره لأننا مجبرون على المغادرة، مجبرون لأن من يحكمنا بقوة الميتافيزيقا أحكم قبضته على العقول. سنغادره أيضًا لأن أفراده غارقون في السادية، وغير مبالين وغير مهتمين، كل يجري إلى تحقيق رفاه نفسه (…) مجبرون على المغادرة لأننا مهدّدون، مهددون بالقهر من طرف مافيات السياسة (…) سنترك هذا الوطن حين ماتت فينا كل ملكات الإنسان ليحلّ محلها الأنا وبعدي الطوفان، مجبرون على المغادرة، قبل أن نغادر هذا العالم بشكل نهائي)!!.
رغم بساطة الرسالة، فإنها رسالة مؤثرة، وتحس بأن صاحبها ذاق مرارة الظلم في وطنه الذي قتل كرامته وحريته.
ونحن نقول :
أننا كوطنيين نحب هذه الأرض ولا يجب أن نموت كي يحيا الوطن لا وألف لا، هذا الشعار خاطئ جداً، يجب علينا أن نحيا من أجل الوطن، يجب أن نورث الوطنية لأجيالنا، نعلمهم حب الحياة والوطن؛ لأن الأوطان لا تبنيها إلا شعوبها وليس الرعاع والعملاء والخونة ومن جاء على ظهر دبابة ، لنعلِّم أجيالنا أن الوطن نحن إن أعاشنا عاش وإن أماتنا مات، والوطنية هي أكبر دروس المحبة!!
ماذا كان الوطن قبل وجود شعب يقطنه، ماذا تمثل مملكة شبوة وحمير وهم من عاشوا فيها وحفروا صخرها وبنوا بيوتًا وحضارة؟ صحراء مصر هل كانت لتكون سوى صحراء رملية خاوية أخرى، لولا شعب بإرادة صلبة قاوم حرها وحمل صخرها ورفع بناءها أهرامات لازالت شاهدة؟ من الذي أعطى الصين استمرارية إرثها الحضاري، وبنى سورها الشهير؟
لولا المواطنون لما عاش أي وطن، لولا الإنسان لما صُنعت حضارة قط، لولا زراعته الأرض لظلّت بورًا، لولا تحديه المخاطر وفتحه طرقًا في الجبال والغابات لبقيت مجهولة بكرًا لا علم ﻷحد بها.
الإنسان هو من يعطي الأوطان قيمتها، قبل وجوده لم تكن أوطان، وبعده لا أوطان أيضًا

والأوطان الوحيدة التي تستحق الحياة -والتي تتطور بالفعل- هي الأوطان الحريصة على أرواح أفرادها؛ مزيد من الإبداع والحياة في الشعب يعني مزيدًا من القوة في الوطن، وأي حياة وأي قوة في وطن، مقبرة؟
التراب يحتاج ليد تبنيه، لا دماء ترويها
وﻷن الشعر ليس سواء كله فإن لأحمد مطر معنى قريبًا في مخالفة الرافعي بمقولته «نموت نموت ويحيا الوطن»، إذ يقول:
«نموت كي يحيا الوطن
يحيا لمن؟
من بعدنا يبقى التراب والعفن
من بعدنا تبقى الدواب والدمن
نحن الوطن..
إن لم يكن بنا كريمًا آمنا.. ولم يكن محترمًا.. ولم يكن حرًا
فلا عشنا.. ولا عاش الوطن»
لكنني أستميحه العذر أيضًا ﻷقول، رغبة بأوطان قوية صحيحة، ناضحة بالحياة: نعيش نعيش.. ليحيا الوطن"
د. علوي عمر بن فريد