محمد أبوالفضل يكتب:
ورطة أوروبية مع "داعش" وعائلاته
لم تكن الدول الأوروبية التي سمحت بسفر أعداد كبيرة من المتطرفين إلى سوريا، تعلم أنها ستواجه مأزقا دقيقا بسبب عناصر تنظيم داعش الإرهابي وعائلاتهم، حيث لوحت تركيا أخيرا بإعادتهم إلى بلدانهم لتتكفل بعقابهم بالطريقة التي تراها مناسبة، وهو ما تم رفضه على الفور، وأصبح محل سجال وشد وجذب بين الطرفين، ووضع دولا أوروبية في إزدواجية بالغة. فهي تدافع عن حقوق مواطنيها أينما وجدوا وتتخلى عنهم إذا تحولوا إلى إرهابيين.
طبعا هؤلاء ليسوا كأي مواطنين عاديين، فقد حاربوا ضمن تنظيم معروف بممارسة أعمال عنف واسعة، لذلك تم رفض الفكرة منذ طرحها في المرة الأولى عندما تمكنت قوات التحالف الدولي من القضاء على القوة الرئيسية للتنظيم في كل من العراق وسوريا، والقبض على آلاف من عناصره ووضع الكثير منهم في سجون تحت حماية قوات سوريا الديمقراطية الكردية التي قالت إن لديها أكثر من ألفي مقاتل داعشي و13 ألفا من أسرهم.
وبذلت فرنسا وألمانيا وبريطانيا جهودا كبيرة لمحاكمتهم في الدول التي ارتكبوا أعمالا إرهابية على أراضيها لتحاشي إثارة بعض المشكلات السياسية. لكن المحاولة فشلت وظل الموقف معلقا وغير محسوم من أي جهة حتى تفجر مرة ثانية مؤخرا بشكل أشد إثارة.
تجددت القضية مع التدخل التركي في سوريا أوائل أكتوبر الماضي، والشروع في ترتيبات لإقامة منطقة آمنة هناك، وإعلان أنقرة أن لديها 1200 داعشي أجنبي في سجونها، و278 آخرين اعتقلتهم خلال غزوها، بخلاف الآلاف من المتطرفين وعائلاتهم لا زالوا في شمال شرق سوريا، وأكدت تركيا أنها ستعيدهم إلى أوطانهم الأصلية، في محاولة للتبرؤ من أعبائهم القانونية، ونفي التهم التي تلاحقها بأنها ساهمت في دعم ظاهرة داعش في المنطقة، وقامت بتوظيفها لتحقيق جملة من الأهداف السياسية، بغرض وضع الكرة في الملعب الأوروبي الذي مارست بعض دوله ضغوطا على أنقرة ورفضت الكثير من توجهاتها الإقليمية.
تأتي الممانعة الغربية من رحم أن استلام هؤلاء معناه إخضاعهم لمحاكمات قضائية، ولأن غالبية الجرائم التي ارتكبوها وقعت خارج الأراضي الأوروبية من الصعوبة توفير المعلومات اللازمة لإثباتها وإدانتهم، ستكون المسألة في غاية الحساسية، ولن تستطيع هذه الدول الإفراج عنهم بذريعة عدم توافر الأدلة الكافية، ولن تتمكن من استمرار احتجازهم في السجون بحجة ارتكاب جرائم لم تثبت عليهم قانونيا. ويتحول الموقف إلى أزمة في أيدي المنظمات الحقوقية والإنسانية وإثارة الرأي العام، ويكشف حجم تناقضات بعض الساسة الأوروبيين التي قادت إلى هذا المأزق.
أشارت بعض الدول إلى إمكانية إسقاط الجنسية عن هؤلاء، وأصروا على ضرورة محاكمتهم في الأماكن التي اعتقلوا فيها، بغرض التملص من قضية كفيلة أن تحدث ضجيجا على ساحات عدة، وتفتح قضايا شائكة تتعلق بطريقة خروجهم من دولهم والجهات الأمنية والسياسية التي سهلت لهم المهمة، خاصة أن هناك معلومات متداولة وكثيرة قالت إن سفرهم إلى سوريا كان مخططا ومنظما للتخلص من وجودهم على الساحة الأوروبية وترحيلهم إلى مناطق قادرة على استيعاب وفهم تشددهم، وهناك يمكن التعامل معهم بشكل حاسم والقضاء عليهم، بمعنى أن تكون المعركة عسكرية خارج الدول التي حملوا جنسيتها، ويتم تفريغ القضية من أبعادها السياسية والاجتماعية.
انقلب السحر على الساحر، وفشلت خطة التخلص منهم خارج الأراضي، وارتدت إلى صدور أصحابها، وتحولت إلى فضيحة مدوية، يمكن أن تثير غبارا كثيفا في وجه من شاركوا في مؤامرة الترحيل، لأن الأدوات العسكرية لم تتمكن من القضاء عليهم تماما، وأدى اعتقال الآلاف منهم إلى فتح جروح عميقة في خواصر بعض الدول الغربية، فقوات التحالف الدولي التي خاضت حربا ضارية لمكافحة الإرهاب في المنطقة أخفقت في إنهائها، بينما أعلنت في وقت سابق أنها تخلصت من جزء كبير في التهديدات التي تمثلها عناصر داعش، والآن عاد شبح التنظيم والمنتسبين إليه يظهر في الأفق بصورة مختلفة، ويقود إلى أزمة تتجاوز حدود المناوشات والابتزاز بين أنقرة ودول رئيسية في الاتحاد الأوروبي.
تعلم تركيا هذه الحقائق، وأرادت حشر بعض الدول الغربية في زاوية ضيقة لابتزازها ماديا، فقد جربت هذه الطريقة في أزمة اللاجئين الشهيرة مع ألمانيا قبل عامين وحصلت على مكاسب اقتصادية، وتعيد تكرار المشهد سياسيا لإجبارها على رفع أياديها عنها وعدم مضايقتها في عمليتها المستمرة بشمال شرق سوريا.
وملفات أخرى تتقاطع فيها مصالح الطرفين، بينها الموقف من قبرص والاكتشافات الغازية في شرق المتوسط، والعمل على إغلاق ملف المتطرفين الذين عبروا من تركيا إلى الأراضي السورية منذ سنوات، وتلقوا دعما سخيا من أنقرة حتى تضخموا وأصبحوا قوة فوق القوة وهددوا أمن الكثير من الدول، وارتبكوا أعمالا إرهابيا في مناطق متعددة، ويمثل تسليمهم تنصلا واضحا من مسؤولية تسفيرهم ودعمهم والمتاجرة بهم.
علاوة على تجنب مواجهة اتهامات لاحقة بأنها تقف وراء تسريب الكثير من العناصر لمناطق الصراعات في المنطقة، أو الهروب إلى بعض الدول الأوروبية، وحال حدوث ذلك، بشكل متعمد أم لا، سوف تبدو تركيا كمن أخلت مسؤوليتها عن أي عمليات إرهابية ترتكب في المناطق التي فرت إليها عناصر داعش، وتضعها على عاتق الدول التي رفضت استلام أبنائها وأسرهم، بما يخلط الأوراق على أمل أن تتراجع حدة الاتهامات التي توجه إلى أنقرة بشأن التوظيف المتشابك لملف المتطرفين.
تريد تركيا تفريغ هذه القضية من مضامينها الرئيسية، فتفجيرها على نطاق واسع سوف يجر عليها مشكلات لن تستطيع ملاحقتها، لأنها تورطت في دعم متشددين في دول عدة، ومتهمة بمساعدتهم عسكريا في سوريا والعراق وليبيا وغيرهم، الأمر الذي أدى لتصاعد الإرهاب في المنطقة وما جلبه من تداعيات ألقت بظلالها على ارتفاع معدلات العنف والفقر والبطالة ونسب الهجرة غير الشرعية للدول الأوروبية، ولذلك تريد أنقرة التفاهم قسرا أو سلما لغلق هذه القضايا، لأن البديل انفجارها في وجه عديد من الدول الأوروبية.
قد يفسر هذا الاستنتاج جانبا من المشاهد التي مرت على تركيا الأسابيع الماضية، وجعلت جملة المواقف الغربية عاجزة عن صد التصرفات التي قامت بها في سوريا وليبيا وشرق المتوسط، وغير قادرة على ردعها في استثمار المتطرفين أينما حلوا، ما جعلها تتجرأ على تكرار المساومة والابتزاز، وتواصل تبني سياسات متناقضة مع بعض القوانين والأعراف الدولية من دون أن يقابل ذلك بردع من القوى الكبرى. وما لم تقم هذه الدول بمراجعة مواقفها والتعامل مع الإرهاب برؤية شاملة والتخلي عن الانتقائية سوف تظل تداعياته مستمرة، ويمكن أن تكشف الكثير من الخفايا والأسرار التي اعتقد البعض أنه يصعب فضحها.