فاروق يوسف يكتب:
مأثرة الشباب الذين أعادوا للديمقراطية معناها
نتعلم منكم يا أولياء الأمر في العراق. الفقر ليس سببا مقنعا للاحتجاج. “لو كان الفقر رجلا لقتلته” تلك كذبة من وجهة نظركم. كما أن الفقر أنواع. هناك فقر طيّب وفقر شرير. الأشرار وحدهم يخرجون لقتل الفقر الذي يوجب الشكر.
ما من أحد يرفع يده احتجاجا إلّا وتكون هناك قوة معادية للمشروع الإسلامي تقف وراءه. تلك الجملة هي خلاصة التجربة النضالية لواحد من أكثر البشر فسادا عبر العصور هو نوري المالكي.
المالكي الذي استقبله الكونغرس الأميركي باعتباره منقذا للعراق هو أكثر المدافعين عن إسلام منقطع الصلة بجمهوره من الفقراء. فهو يستعملهم في المسيرات الجنائزية، غير أنه غير معني بهم في حياتهم الشخصية التي لا تنفع في التعريف بهم بشرا.
لقد اختصر سياسيو العراق الطريق إلى المرجعية الدينية التي يهمّها أن يتشبه بها أتباعها من جهة عماها الشامل. فهي لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم. سيكون على أبناء المرجعية وهم السياسيون أن يكونوا طوع يديها. فأموال العراق هي ملك الأئمة الغائبين وليست ملك الشعب الذي ينبغي أن يظل فقيرا في انتظار ظهور إمامه الغائب الذي سيملأ الأرض عدلا.
العدل مؤجل. لذلك من المستغرب أن يخرج الشباب مطالبين بالعدالة. في ذلك خرق للاتفاق. المرجعية الدينية منزعجة. ليس بسبب القتل بل لأن الشباب قفزوا على الخطوط الحمراء. ربما تلوم المرجعية الحكومة على أنها لم تتعامل بما يمنع حدوث ذلك.
لذلك فإن المرجعية الدينية لم تحتجّ على قتل المتظاهرين إلّا متأخرة. فالمتظاهرون بالنسبة لها عبارة عن خوارج جدد. لقد غلّبوا الحياة الدنيا على البقاء في حالة انتظار ودعاء.
مشكلة العراقيين معقدة.
هناك سلطة دينية مخاتلة في مقابل سلطة “مدنية” فاسدة، كلاهما تعملان على تطبيع الفقر باعتباره قدرا سماويا ينبغي الخضوع له من غير اعتراض. بالنسبة لخامنئي فإن التمرّد على ذلك القدر يُعتبر نوعا من تحدّي الإسلام الذي لا بدّ أن تقف وراءه قوى الشر الكبرى.
ولأن خامنئي يحكم العراق فإنه يقول الكلمة الفصل في ما يجري هناك.
غير أن العراقيين مزقوا صوره وسحقوها بالأحذية وأشعلوا النار في العلم الإيراني. ذلك يعني أنهم قفزوا على المالكي وسليماني والصدر ليصلوا إليه وهو ممثل الإمام الغائب.
أعتقد أن هستيريا إيران في ذروتها الآن.
صار واضحا للإيرانيين أن وجودهم في العراق غير مرحب به. كما أن المرجعية التي لطالما راهن عليها السياسيون قد وُضعت على الرف ولم يعد أحد من العراقيين ينظر إلى دورها بتقدير.
الفقر الذي أرادوا تطبيعه هو القوة التي تتحرك لسحق ما أراده الطائفيون قانونا ثابتا.
فبالرغم من أن انتفاضة الشباب في العراق لم تكن صدى مباشرا للفقر غير أن الفقر كان واحدا من أسئلتها العظيمة. وهو دافع يستحق أن نتوقف عنده في بلد ثري كالعراق.
كان يمكن أن تكون الاحتجاجات مجرد تعبير عن خلاف سياسي لولا المشهد المهين والرث والمزري الذي صار العراق يظهر من خلاله.
يشعر العراقيون أنهم وقعوا ضحية لمؤامرة، كانت الديمقراطية المزيفة واحدا من وجوهها.
لذلك فإن أي إصلاح تقوم به الحكومة لبنيتها لن يرضيهم. لقد مضى زمن الإصلاحات. ولن تنفع نصائح المرجعية الدينية في شيء بعد أن افتضح تبنيها للفاسدين عبر السنوات العجاف الماضية.
الشرعية الزائفة التي يتفاخر بها الطرفان قد أطيح بها في أعظم استفتاء شعبي يشهده العراق. وإذا ما كانت الديمقراطية قد خانت الشعب فهو اليوم مصرّ على إسقاط النظام من خلال أحد حقوقها وهو حق التظاهر السلمي. وهو ما لن يتمكن القتل من محو تأثيره على المستقبل.
فبعكس ما كان مشاعا من ميل عراقي إلى العنف ها هو جيل جديد يُرسي قواعد معادلة جديدة يكشف من خلالها عن وعي سياسي متقدم.
فلأول مرة في التاريخ السياسي المعاصر في العراق تقع ثورة من غير اللجوء إلى العنف.