فاروق يوسف يكتب:
ناصر اليوسف معجزة الرسم الحديث في البحرين
ما الذي يحدث للرسام إذا فقد القدرة على النظر؟ الأمر مؤلم وصعب وقاس، غير أن قوة الرسم تنتصر في النهاية. فبعد عقود من ممارسته تتمكّن عاداته من التسلل إلى أجزاء حيوية عديدة من جسد الرسام إذا لم نتحدث عن إيقاعه الروحي الذي ينظم عمل تلك الأجزاء.
حينها يطفو نوع من الصلح الداخلي وسيكون بمثابة مؤشر لبدء مرحلة جديدة، يرى الرسام فيها من خلال يديه مستعينا بخيالهما. لا يملك أحد القدرة على تمييز مَن يرسم. ذلك لأن ذاكرة الرسام البصرية تكون جاهزة لدعم اليد التي تحلم لتزودها بالمفردات البصرية.
كان ناصر اليوسف يرسم بعد أن فقد البصر في السنوات الأخيرة من حياته كما لو أنه يرى. بل كان كمَن يرى. كانت يده ترى فعلا بعد أن تحررت من سلطة العين. ألم يكن يغمض عينيه في الماضي وهو يرسم؟ كان عليه أن يتذكّر ذلك فيما كانت يده تقوم بالفعل نفسه وباللوعة نفسها.
اليوسف كان يرسم بعد أن فقد البصر في السنوات الأخيرة من حياته كما لو أنه يرى. بل كان كمَن يرى. كانت يده ترى فعلا بعد أن تحررت من سلطة العين
كان الآخرون ينظرون إلى ما يقوم به اليوسف وهو يرسم ويحفر على “الزنك” لوحاته كما لو أن الأمر يتعلق بمعجزة فيما كان اليوسف نفسه لا يرى في ما كان يفعله إلا استمرارا لما كان يفعله في سالف أيامه. إنه يرسم. لم يتخل عن عادته في الرسم. ما حدث للآخرين لم يحدث له.
حين التقيته نهاية القرن الماضي حدثني عن الرسم باعتباره مشروعا بصريا. وكان عليّ أن أصدّق أن الرجل الجالس أمامي يرى. بل إنه يرى أفضل مني. ذلك لأنه يرى بحساسية وخبرة لا يملكهما أحد سواه.
ذخيرة لا تنفد
غير أن الأمر لم يكن يتعلق بما يرى، بل وأيضا بما يشعر به. كانت حواسه قد استيقظت بطريقة جعلته يرى كل شيء. لقد حدثني يوم التقيته عن زقزقة عصفور يسمعها صباحا وتوحي له بمشهد الحديقة. لقد رأيت محفورات من صنعه، ربما يتوقف الكثيرون عند دقتها التصويرية غير أن ما استرعى انتباهي فيها تلك القوة التعبيرية التي تميزت بها خطوطه. كان اليوسف يسمع فيرى. يلمس فيرى. يشم فيرى ويتذوّق فيرى. لقد كانت حواسه تخدم الرسام الذي كان لا يزال يرى. درس اليوسف لا يزال قائما.
قوة تعبيرية تميزت بها خطوطه
ولد اليوسف عام 1940 في المحرّق بالبحرين. لم يدرس الرسم. غير أن غوايته تمكنت منه وهو ما دفعه إلى الانضمام إلى حلقتي التعلم لدى رسّاميْن سبقاه هما أحمد السني وعبدالكريم العريض. ذلك ما تحكم بطريقته في التفكير في الفن والبحث عن العناصر التي يتمكن من خلالها أن يصل إلى خصوصيته. وكما يروي العريض في كتابه “أضواء على الحركة التشكيلية في البحرين” فإن اليوسف كان الوحيد من بين زملائه الذي كانت الزخارف الجصية التي تحيط بالأبواب القديمة تسترعي انتباهه فيرسمها حين كانوا يخرجون لرسم الطبيعة. ذلك ما كان أساسا لأسلوبه الفني.
حين انتمى إلى أسرة هواة الفن بدأت حكايته الحقيقية مع الفن. كريم العريض، كريم البوسطة، راشد العريفي، راشد سوار، عزيز زيباري كانوا ملهميه في حياة فكرية وعملية، كانت تنتج عنها مجموعة من المعارض التي تقام في المراكز الثقافية التابعة للسفارات الأوروبية في البحرين.
اليوسف كغيره من الرسامين البحرينيين رسم البحر وعاش من خلاله حياة الغواصين. السفن التي تذهب بهم والشواطئ التي تنتظرهم. رسمهم وهو يستعيد تجربتهم التي تتحرك بين رجاء الثروة وألم الغياب. مغامرته في الرسم كانت تعيده إلى مغامرة أبناء بلده في الغوص.
رسم المنتظرين. فكان الانتظار واحدا من أهم الأفكار التي عالجها أسلوبيا واستطاع من خلالها أن يتوصل إلى الاختزال الذي تميز به أسلوبه وهو يسعى إلى الوصول إلى المعاني التي ينطوي عليها فعل الانتظار وهي معان، غالبا ما كانت ذات رجع مأساوي.
ذاكرة بصرية جاهزة لدعم اليد
ما تعلمه اليوسف يومها ساعده كثيرا يوم صارت المرئيات تحضر إليه بقوة معانيها، فكانت يده تستحضر تلك المرئيات، كما لو أنها تخرجها من أعماق سحيقة سكنت ذاكرته. لم تكن لوحته أصلا تحتفي بالتفاصيل. وهو ما ظل وفيا له حتى نهاية حياته. فهو يرسم الحدث باعتباره فكرة. لذلك كان يكتفي بالقليل.
حضور اليوسف في المشهد التشكيلي البحريني هو جزء من حضور المعجزة التي يرى الكثيرون أنها قد تحققت من خلاله. غير أن حضوره الحقيقي يمكن التعرف عليه من خلال التعرف على دوره الريادي في تاريخ الحركة التشكيلية البحرينية. فالرجل رسم بطريقة جريئة من حيث حداثتها وهو ما اعتبر خروجا على تقاليد فن لم ينشأ بعد.
لم يستسلم اليوسف للطابع الحكائي في الرسم، بالرغم من أنه كان مولعا بجمع الحكايات من أجل رسمها كما كتب ذات مرة وهو يروي سيرته الشخصية. لذلك لم يقع في فخ رسم “التراث الشعبي” كما وقع زملاؤه من الجيل الأول. في المقابل فإنه لم يتعمق كثيرا في المسألة التاريخية التي أرّقت الكثير من زملائه وأسرتهم.
كان رساما للحياة المباشرة. ولكن ما الذي يعنيه أن يكون المرء رساما للحياة المباشرة؟ في واحدة من أجمل لوحاته وأكثرها تأثيرا يرسم اليوسف كائنات فزعة، كل واحد منها يقبل من كابوس مختلف وهي تجتمع على سطح اللوحة لا لتؤلف مجتمعا متآلفا بل لتستعرض اختلافها. هناك حضور لأشياء تذكّر بالحياة كالسلالم والأشجار، غير أن تلك الأشياء لا تحتل حيزا يمكنها من خلاله أن تشغل عين الناظر. تبقى كما لو أنها جزء من لعبة لم يتم الانتهاء منها. وهي مسلية لأنها لا تزال قابلة للإلهام.
في هذا يختلف اليوسف عن سواه من أبناء جيله الذين انشغل معظمهم برسم الموضوعات التي هي استلهام للتراث الشعبي، من حكايات وعادات ومهن وطقوس، كانت تمثل الحدود التي تفصل المجتمع البحريني عن العالم. كان اليوسف منفتحا برسومه على عالم تجريدي لم يصل إليه.
رسام الجنة المضادة
لن يغفر اليوسف لنفسه أن يكون رساما سابقا. لقد فقد الفنان البصر كليا منذ عام 1992 غير أنه أصرّ على أن يكون الرسم هو السبب الذي يثوي صلته بالحياة. كان اليوسف يرسم بقوة مخيلته فكانت خطوطه تقع في مكانها كما لو أنها تنبعث من داخل اللوحة.
بالنسبة إليه فقد كان كل شيء مرسوما سلفا. لم يكن عليه سوى أن يحرك يده. تلك يد كانت قد امتلأت خيالا وهي لذلك كانت حرة فهي تعرف ما تفعل وتعرف ما ينتج عن حركتها.
اليوسف واحد من مؤسسي فن الرسم في البحرين اختط طريقا خاصة به، وهي طريق مشى عليها الكثيرون من بعده ليتعرفوا من خلالها على هويتهم البحرينية. وقد لا أكون مبالغا إذا ما قلت إن اليوسف هو الأكثر تأثيرا من بين الآباء المؤسسين في الأجيال اللاحقة.
حين يتم ذكره فإن الحديث يذهب إلى معجزته. الأعمى الذي يرسم. غير أن اليوسف لا يمكن اختصاره بهذه الطريقة الساذجة. كان اليوسف يرسم بقوة وحيه وهو الوحي الذي ألهم العشرات من بعده طرقا في النظر إلى البحرين باعتبارها جنة الناس الذين يكتفون بشظف الانتظار. إنها الجنة المضادة التي اهتدى إليها واحد من أبناء دلمون