نهى الصراف تكتب:
عشاق الوحدة.. فاعلون، منظمون وأقل عرضة للتوتر
مع تسارع وتيرة الحياة اليومية والتقدم التقني المذهل، أصبح استكمال الأعمال بالاحتكاك بين الناس محدودا جدا في ما يتعلق بإنجاز معاملاتهم المالية والخدماتية وكل ما تتطلبه أمور المعيشة، ويمكن للأفراد، على سبيل المثال، قضاء يوم كامل من دون الحاجة للحديث مع أحد أو حتى إدارة حوار قصير أو حديث عابر.
يتم تسديد فواتير الهاتف والكهرباء أو شراء الملابس وأدوات المنزل أو الحصول على معلومة، وتبادل رسائل تهنئة أو خطابات خاصة بالعمل وحتى طلب الحصول على وجبة طعام ساخنة، بالاستعانة بوسيط إلكتروني يقع على عاتقه عقد لغة اتصال صامتة تعتمد على الرموز والحروف المكتوبة على شاشة كمبيوتر أو هاتف نقال. لهذا السبب، لا يجد أحدنا ضرورة ملحة للكلام الشفوي أو استخدام وسائل الاتصال التقليدية للتواصل مع الآخرين، أشخاصا كانوا أم أجهزة إلكترونية.
وفي هذه البيئة الصامتة، تزداد فرص النجاح لبعض الناس الذين يفضلون العزلة وقضاء أوقات يومهم من دون الحاجة إلى صحبة الآخرين، باعتبارهم أشخاصا مكتفين بذواتهم متأقلمين وفق الإطار الذي حددوا به مسار حياتهم.
وتتخذ الصورة النمطية الاجتماعية مسارا غير منصف في ما يتعلق بأصحاب هذا النمط من الحياة فهم يعتقدون بأن الشخص الذي يفضل العزلة قلق ويعاني الاكتئاب ومتخوف من الآخرين وليست لديه القدرة على عقد علاقات إيجابية مع الناس، أما الآراء فقد تكون تمييزية ومهينة في بعض الأحيان، فالعازبون بشكل ما هم أناس اختاروا أن يتأقلموا مع يوميات تتخذ مسلكا واحدا لا يحيد عن خياراتهم الشخصية، فهم أصحاب القرار والفعل والخيار في حياتهم، لهذا السبب ربما تكون الصورة النمطية التي يرسمها لهم أفراد المجتمع خاطئة تماما عندما يثبت هؤلاء نجاحهم وتفوقهم على بعض الناس الذين يعيشون مع شركاء، مع أطفال أو من دونهم.
وفي الآونة الأخيرة أدرك متخصصون قيمة العزلة وبدأوا يوثقون بالدراسات المستفيضة أهمية أن يقضي إنسان ما جزءا كبيرا من حياته وحيدا منعزلا، بصورة يمكن أن تجعل منه مبدعا حقيقيا، يمتلك من البصيرة الذاتية والثقة بالنفس ما يوفر له حياة مستقرة وسلامة نفسية، وهذا يعتمد في الغالب على الكيفية التي يقضي فيها هؤلاء الأشخاص أوقاتهم وهم في عزلة شبه تامة عن الحياة الاجتماعية.
وتؤكد الدكتورة بيلا ديبولو؛ مؤلفة وباحثة في أكاديمية العلوم النفسية والدماغ في جامعة كاليفورنيا الأميركية، أن هناك مواصفات شخصية معينة يتميز بها العازبون ليس بالضرورة أن تكون سببا لاختيارهم هذا النمط من الحياة، بل قد تكون نتيجة، لذلك من المفترض أن يكون بعضهم وصل إلى هذه الخطوة دون اختيار حقيقي، كما هو الحال مع بعض المتزوجين الذين يفضلون لو أنهم لم يتخذوا قرار الارتباط.
الأشخاص الذين يحبون حياة الوحدة أقدر من غيرهم على مواجهة سطوة المشاعر السلبية في حال تعرضهم إلى إحباط
وفي ما يتعلق بسمات الشخصية، توصلت نتائج دراسة حديثة شملت أكثر من عشرة آلاف سيدة أسترالية في عقدهن السابع، إلى أن النساء غير المتزوجات ودون أطفال أكثر تفاؤلا من النساء المتزوجات سواء من رزقن منهن بأطفال أم لا، فضلا عن السيدات المتزوجات سابقا.
في حين أشارت نتائج دراسة مقارنة بين الأشخاص المتزوجين والعازبين، تكونت عينتها من بالغين أميركيين في منتصف العمر، إلى أن أغلب العازبين أظهروا اتجاها مشابها للعيش، مؤكدين على أن الحياة بالنسبة لهم كانت “عملية مستمرة من التعلم والتغيير والنمو”، وبأنهم يمتلكون مزيدا من الاستقلالية ويتحكمون في مصائرهم أكثر من غيرهم إضافة إلى أنهم أكثر اكتفاء ذاتيا؛ فهم يفضلون التعامل مع المشاكل والتحديات بمفردهم ولا يزعجهم هذا الأمر على الإطلاق كما أنهم أكثر انفتاحا على الآخر، واثقون، منظمون وأقل عرضة للتوتر والقلق من المتزوجين ومع ذلك، فإن أغلب العازبين ليست لديهم حاجة ملحة للانتماء فهم أبعد الناس عن الإيمان بعبارات مثل: “أحتاج أن أشعر أن هناك أشخاصا يمكنني اللجوء إليهم في أوقات الحاجة”.
وبقدر هذا التميز، فإنه حتى الأشخاص الذين اختاروا الوحدة ولم تجبرهم الظروف على ذلك فإن لهم أسبابهم المختلفة، إلى ذلك اختبرت عالمتا الاجتماع الأميركيتان فرجينيا توماس ومارغريتا أزميتيا، تصوراتهما في ما يتعلق بالأسباب التي تجعل بعض الناس يختارون حياة الوحدة، في بحث لعينة من مراحل عمرية مختلفة ومنها مرحلة الشباب، نشرت نتائجه في مجلة “المراهقة” العام الحالي.
وجاء من ضمن الأسباب الإيجابية التي أوردها المشاركون؛ “أنا أستمتع بالهدوء، تساعدني الوحدة على البقاء على اتصال أكثر مع مشاعري، أنا أقدر الخصوصية، يمكنني اختصار مشاركتي مع الآخرين في الأنشطة التي تخصني حصرا، أحب أن أستثمر وقتي في أعمال مفيدة تحتاج إلى التركيز”، في حين جاءت الأسباب السلبية على النحو التالي؛ “أشعر بالقلق عندما أكون مع الآخرين، لا أستطيع أن أكون نفسي الحقيقية عندما أتواجد مع الآخرين، لا أشعر بالرضا عما أقوله أو أفعله في حضور الآخرين”.
وفي العموم، يبدو أن الأشخاص الذين يحبون حياة الوحدة ويختارون البقاء عازبين يتمتعون بصحة نفسية جيدة، فهم أقدر من غيرهم على مواجهة سطوة المشاعر السلبية في حال تعرضهم إلى إحباط، كما أنهم لا يتأذون بسهولة من مشاعرهم وهم بالتالي أقل حساسية نفسية تجاه الرفض، لديهم القدرة على تجاوز تجربة فاشلة أو خسارة شخصية بسبب اعتيادهم على مواجهة الأمور بأنفسهم ومن دون الاعتماد على الغير. هذا الأمر يسري على الأشخاص الذين اختاروا حياة الوحدة بمحض إرادتهم أو اضطرتهم الظروف لفعل ذلك