فاروق يوسف يكتب:
مصطفى فروخ الذي رسم الطبيعة بلغة الشعر
لو أن تراث مصطفى فروخ يضيع فإن جزءا من لبنان يضيع معه. هو ذلك الجزء الأكثر نقاء وذكاء وسعادة. في متحفه الذي أقامه ولده هاني في بيته بالمصيطبة ببيروت جزء من ذلك التراث الذي لا يزال في لحظة إشراق خالدة.
ترى لبنان في فن فروخ، غير أنه ليس لبنان الواقع، بالرغم من أن الفنان كان حريصا على أن يرسم ما يراه بروح كلاسيكية. فروخ لم يخترع المشاهد التي رسمها، غير أنه رسمها بشعور مَن يرغب في أن تبقى خالدة إلى الأبد.
الفنان الذي أبهرته كلاسيكيات روما، مر بباريس في لحظة حرجة، كانت الحركات الفنية الغرائبية سيدة المشهد الفني فيها وفي مقدمتها الدادائية والسريالية فشعر بالضياع ولم يتمالك نفسه إلا حين احتضنت خطاه الكلاسيكيات الفنية العربية في الأندلس.
لبنان الذي رسمه هو غير لبنان الذي نراه. ذلك صحيح. غير أن لبنانه لم يخن الواقع حين حاول الفنان أن يستخرج من أعماق ذلك الواقع القوة الشعرية التي ينطوي عليها.
لم يرسم مشاهد بلاده بعيني الفتى العائد من بعيد محملا بالأفكار الغربية. لذلك كان بعيدا عن فن المستشرقين بالرغم من أنه رسم بعض موضوعاتهم كما أنه لم يحرص على أن يكون فنانا محليا من خلال التأكيد على الإشارات والرموز الجمالية المحلية.
رسم لبنان كما لم يره أحد. وقد تكون لوحاته خير دليل للتعريف بالروح اللبنانية الكامنة. فما رآه رسمه لكن بما تمكن من رؤيته كامنا في الأعماق. لذلك يصح القول إن ما رسمه كان لبنانه الشخصي. وهو لبنان الأعلى.
كان فروخ مثاليا في تطلعه إلى رؤية لبنان النزيه، العادل والمتحرر من طوائفه وعاداته الأرضية. لذلك رسم القديسين مثلما رسم وجوه رجال الدين المسلمين ورسم الكنائس مثلما رسم المساجد وكانت رحلته من روما إلى الأندلس مرورا بباريس بمثابة صلاة بلغات عقائدية متعددة.
الرسم وسيلة للتنوير
ولد فروخ ببيروت، محلة البسطة التحتا عام 1901. رسم في طفولته مناظر بحرية قبل أن ينتسب إلى محترف حبيب سرور عام 1916 وفي عام 1921 درس على يد الفنان خليل صليبي. بعدها سافر عام 1924 إلى روما ليدرس الرسم في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة ليتخرج منها عام 1927. وخلال دراسته شارك في بينالي روما بلوحتين. ذهب إلى باريس بعد تخرجه مباشرة لينتسب إلى محترفات عدد من الرسامين ويعرض رسومه في صالون باريس. وبعدها سافر إلى إسبانيا ليتجول بين الآثار العربية في الأندلس وهي الجولة التي ألقت بظلالها على تجربته الفنية فكان يستعيد بعد ملامح الزخرفة العربية.
حين عودته إلى بيروت درس الرسم في أماكن مختلفة منها الجامعة الأميركية ودار المعلمات الرسمية ومدرسة مار أفرام. أقام أول معرض شخصي له عام 1928 في دار الوجيه أحمد بك أياس. كان ذلك أول معرض شخصي يقام لفنان لبناني ببيروت. بعده أقام معرضا في الجامعة الأميركية، حاول من خلاله أن يستعرض قدرته على رسم مختلف الموضوعات بدءا بالمناظر الطبيعية وانتهاء بالصور الشخصية مرورا بالحياة الجامدة.
كان فروخ غزير الإنتاج فهو بالرغم من أنه غادر الحياة في سن الخامسة والخمسين عام 1957 فقد ترك أكثر من خمسة آلاف لوحة. غير أن الأهم من ذلك يكمن في تركيز الفنان على أن يحقق هدفه الجمالي. أن يكون الفن مصدرا لإعادة إنتاج الواقع. وهو من خلال ذلك كان يسعى إلى أن يلعب الفن دورا طليعيا في عملية التنوير في
مجتمع ثلاثينات القرن الماضي الذي لم تتح له فرصة الخروج من الظلام العثماني حتى وقع تحت الاحتلال الفرنسي.
أحب بلاده بشغف الرسم
بعد داود القرم وابنه جورج وحبيب سرور وخليل الصليبي الذين وقفوا في مقدمة المشهد التأسيسي للفن في لبنان ظهر الجيل الذي لعب دورا عظيما في التمهيد للحداثة الفنية وكان مصطفى فروخ وعمر الإنسي وقيصر الجميل من أهم أبناء ذلك الجيل.
وإذا ما كان الثلاثة قد شغفوا برسم المناظر الطبيعية فإن فروخ كان أكثرهم تنويعا على مستوى تمثل المشهد الطبيعي اللبناني بتنوع مفرداته الجمالية الساحرة. فهو لم يترك بلدة أو ضيعة إلا ورسمها، حتى ليظن المرء أنه قضى حياته حازما حقيبته الصغيرة وهو يتنقل بين مكان وآخر. رسم البحر والغابة والجبل والحقول والبيوت والفصول ناهيك على أنه رسم عددا من اللوحات داخل المحترف كانت موضوعاتها الوجوه الشخصية والعاريات.
يمكنك أن ترى لبنان من خلال الاطلاع على لوحات فروخ بتسلسلها التاريخي ولكنه لبنان الذي رآه فروخ بعيني الشاعر الذي صب قوة خياله في يد الرسام. فروخ الذي كان رساما تقليديا تميزت لغته في الرسم بتحررها من لغة الوصف العادية بالرغم من أنه لم يكن انطباعيا كصاحبه عمر الإنسي. كانت رسومه تقول الواقع غير أنها ترتفع به لتضفي عليه نوعا من الهالة التي تلحقه بالأشياء المقدسة.
يقيم بين السحب
ولو أتيحت للشاعر سعيد عقل الفرصة لوصف ذلك الـ”لبنان” الذي رسمه فروخ، لقال عنه إنه لبنان العلوي الذي يقيم بين السحب. لقد أسس فروخ تقاليد رسم تبشر بالحب قبل وبعد وقوعه. وهي تقاليد تعلم منها الرسامون اللبنانيون الشيء الكثير. وقد لا أكون مبالغا حين أقول إنه ما من رسام عربي أحب بلاده من خلال الرسم مثل مصطفى فروخ.
كان مصطفى فروخ ضروريا. لا لأنه رسام جيد فقط، بل لأنه علمنا ما الرسم ولماذا يجب أن نحبه؟ لقد اكتشف من خلال الرسم أسرار جمال المكان الذي نقيم فيه. تلك نعمة لا يصل إليها إلا القلة. غير أن هناك مفارقة تكمن في أنه حين ذهب إلى باريس وجدها كبيرة. هي أكبر من أن يقدر على استيعاب ما يجري فيها. لذلك قرر أن يكتفي بزيارة متاحفها وأدار ظهره لها. ذلك ما فعله تماما رسام عراقي وصل إلى باريس بعد أن غادرها فروخ بعشر سنوات هو فائق حسن. لم ير ذلك الرسام من باريس سوى “اللوفر” ولم ير من اللوفر سوى ديلاكروا.
الفرق بين فروخ وحسن أن الأول وضع ما تعلمه من تقاليد الرسم في خدمة هدفه الذي هو التنوير عن طريق الرسم أما الثاني فإنه كان معلما جيدا للرسم غير أنه انهمك في رسم لوحات حسب رغبة المقتنين الذين أقبلوا على شراء لوحاته. الثروة التي تركها فروخ هي لوحاته التي لا تقدر الآن بثمن.
متحفه هو جزء من تلك الثروة. ولكن في حقيقة الأمر فإن لبنان كله هو متحفه. أينما تمضي يمكنك أن ترى بعيني فروخ مشهدا كان الرجل التقطه ووضعه على سطح لوحة.
يمكنه أن يحولنا إلى شعراء حين نتخيل المشهد الطبيعي بالطريقة التي رسمه من خلالها. ربما كان من حسن الحظ أنه لم ينصت إلى الضجيج السريالي في باريس. لو أنه فعل ذلك لحُرم اللبنانيون من رؤية اللذائذ الخفية التي ينطوي عليها جمال بلادهم.
لقد أعاد إنتاج صورة بلاده من خلال الرسم. وهي الصورة التي ستظل خالدة. فالفن يقول الحقيقة حين يعلو بالواقع ويربطه بالخلود. مصطفى فروخ هو رسام لبنان الذي يبقى