فاروق يوسف يكتب:
ثلاثة رسامين من المغرب: مخترع الحداثة والمحلّق بجسده والمخلص لأبيضه
ما الذي يجمع بين الجيلالي الغرباوي ومحمد القاسمي وأحمد جاريد؟ مغاربة وتجريديون وغرباء عن أجيالهم. ذلك صحيح. غير أن هناك شيئا غامضا يدفعني إلى رؤية خيط بين بداية الحداثة الفنية في المغرب متمثلة بتجربة الغرباوي ونهايتها متمثلة بتجربة أحمد جاريد. كانت تجربة محمد القاسمي هي الوسيط بين التجربتين. تغير الرسم في المغرب بعد ظهور الجيلالي الغرباوي. أما القاسمي فقد تفوق على أفراد جيله المغامرين من جهة سعة عالمه. وإذا ما تعلق الأمر بجاريد فإنه أقفل باب الحداثة ببياض سطوحه النقي الذي استوعب الخامات كلها بخفة كما لو أن الرسم صار عبارة عن مزاج. الرسامون الثلاثة هم ممثلو ثلاثة أجيال فنية صنعت تاريخ الحداثة الفنية في المغرب.
من خلال أعمالهم يمكننا التعرف على طبيعة التحولات التي شهدها الرسم في بلاد لا يزال الفنان الشعبي فيها منغمسا بلذائذ معجزاته.
الجيلالي الغرباوي مخترع الحداثة الفنية في المغرب
الرجل الميت على مقعد بباريس
من أجل أن يغطّي نفقات دراسته الفن كان يبيع الصحف نهارا، الرجل الذي قدّر له أن يقيم في قلب العاصفة السريالية واحدا من أتباعها المخلصين ويكون صديقا لمبدعين كبار من نوع الشاعر والرسام هنري ميشو والرسامين بيسيير وريستاني وهارتونغ وجان دوبوفيه. ألم يتعرف على سولاج وهو الذي تحمل بعض لوحاته أثرا لافتا من تجربة ذلك الفنان المهم من جهة اهتمامه بضربة الخط؟
كل شيء في سيرة الفنان المغربي الجيلالي الغرباوي يشير إلى قوة وعمق وسعة امتزاجه بالمشهد الفني الباريسي المعاصر الذي عاش تفاصيله بشغف مجنون بالحداثة الفنية التي قُدر له أن يكون رائدها في بلاده، وهي صفة لم تقلل من شقائه الشخصي، ذلك الشقاء الذي امتد مثل خيط مشدود بين سنوات طفولته الأولى ولحظة مماته جالسا على كرسيّ في حديقة عامة.
مشهد موته قبل ساعات من افتتاح معرضه الشخصي في باريس لن يتكرر، مثلما لن تتكرر تلك الثقة التي كان الغرباوي يهبها لخطوطه المرهفة والقلقة لتكون جسرا بين قارتين، بين ثقافتين، بين تاريخين من الصفاء الجمالي.
حياته القصيرة لم تكن إلا مختبرا لغربة أضفت عليه طابع الإنسان المتمرد ووسمت قلقه واضطرابه وحيرته بسماتها. عاش غريبا في باريس بالرغم من كل صداقاته العظيمة التي وهبته قدرا لافتا من الافتنان بالحياة وعاش غريبا في المغرب بالرغم من أنه كان يقف على الدرجة الأولى من سلّم الإبداع، فهل كانت الغربة هي المقياس الذي يقيس به وقع خطواته على الارض؟
الرسام ومنافسه في سباق الحداثة
رسم الغرباوي أول لوحة تجريدية في تاريخ الرسم المغربي. حدث ذلك عام 1952. بعد ذلك بسنة رسم أحمد الشرقاوي اللوحة الثانية، غير أن الفنانين كانا قد تقاسما سبق الريادة الفنية، لا من جهة عنايتهما بالتجريد ومحاولتهما تكريسه أسلوبا فنيا، بل لأنهما جلبا تقاليد وقيما فنية جديدة لم تكن التربية الفنية التي تبنتها المؤسسات التعليمية التي أنشأها المستعمر تقترب منها أو تشير إليها. لقد نسف الفنانان الأسس المدرسية التي كانت قائمة على فكرة تقديس الحرف اليدوية، باعتبارها من وجهة نظر المستعمر الفن الوحيد الممكن في بلاد حُرم شعبها من نعمة الخيال. حملت رسوم الغرباوي والشرقاوي مقولة مختلفة تماما. هناك عناصر ومفردات ووحدات في الفنون الشعبية المغربية يمكنها أن تكون مصدر إلهام لبناء لوحة حديثة. لم يكن الفنانان معنيين بثنائية التراث والمعاصرة. كانت حياة الإنسان المغربي المتروك لقدره الجمالي المحض مثار دهشتهما.
كان الغرباوي بحكم تمكّن الغربة منه أكثر أوروبية من الشرقاوي، غير أن أصدقاءه الأوروبيين لم يكونوا من جهة ولاءاتهم الفنية أوروبيين تماما. كان ميشو بالأخص قد استلهم أسلوبه التبقيعي من الورق الصيني المصنوع يدويا وكان سولاج يدرّب يده على الكتابة باليابانية. الجيلالي هو الآخر عرف كيف يستعيد مغربيته من خلال الاستعانة بخيال الحرفيين المغاربة. يومها، أي في السنوات الأولى من ستينات القرن الماضي، كان المغرب يعيش مزاجا فنيا حداثويا، لذلك التف فنانون شباب مثل محمد المليحي وفريد بلكاهية حول الغرباوي معتزين بفتوحاته الجمالية والفكرية على حد سواء. غير أن شخصية الغرباوي القلقة لم تكن ترى في ذلك التكريس إلا نوعا من الوقت وخيانة المكان.
الشقاء الذي يدرّ أموالا على من لم يعانيه
ولد الغرباوي في مدينة جرف الملح التابعة لسيدي بلقاسم في المغرب عام 1930. في سن العاشرة فقد أباه وأمه فكفله عمه. التحق بعد ذلك بدار للأيتام ليتعلم مهنة يدوية. اخترق سنوات يتمه ليصل إلى التعليم الثانوي في مدينة فاس، من بعده التحق بمدرسة الفنون الجميلة التي غادرها بمنحة دراسية إلى باريس حيث درس الرسم في المدرسة العليا للفنون الجميلة أربع سنوات ألحقها بسنة قضاها في أكاديمية جوليان. عام 1956 حصل على منحة من الحكومة الإيطالية لدراسة الفن، وفي سنة 1957 قبل دعوة من الأب دوني مارتان ليقيم في دير تومليلن بمدينة أزرو، وهو المكان الذي سيعود إليه دائما بحثا عن العزلة والرغبة في أن يكون خالصا للفن. عام 1960 يعود إلى المغرب ولكنه بسبب شعوره الملحّ بالغربة يقيم في فندق صومعة حسان بالرباط. تشق عليه حياته وهي تمزج الفشل بالنجاح. نجاح فني حيث صار اسمه مكرسا بين الأوساط الفنية وفشل عاطفي قادته إليه الفتاة الفرنسية التي أحبها. عام 1971 يعود الغرباوي إلى باريس ليودعها ميتا وهو جالس على مقعد عمومي في الثاني من أبريل من العام نفسه.
محمد القاسمي رسام الجسد المحلق بخفته
بسبب شغفه المجنون بالرسم نسي أن يدرسه. ابن مكناس الذي رأى فيلاسكز لأول مرة وهو في سن التاسعة عشرة كان قد أصيب بهلع الرسم في وقت مبكّر من حياته ولم يفارقه ذلك الهلع، بل على العكس تماما صار أسلوبه الشخصي في الرسم مرآة له.
الكادح في خدمة الجمال
كان يرسم كما يعيش. فكرته عن الرسم هي ذاتها فكرته عن الحياة. أن يقف إلى جانب كبار جيله من الرسامين الذين درسوا الفن أكاديميا، محمد شبعة، فريد بلكاهية، محمد المليحي، فذلك حدث كبير، أما أن يتقدم عليهم من جهة قدرته التعبيرية فذلك هو الزلزال الذي ضرب الحياة التشكيلية في المغرب.
ربما يكمن السر في ذلك أن محمد القاسمي لم يكن ابن صنعته. كانت موهبته أكبر من كل صنعة. تلك الموهبة التي تخطت الرسم إلى الكتابة والشعر، فقدمته باعتباره وحشا. لم يكن في حقيقته هنري روسو جديدا. فالفرنسي روسو (1844 ــ 1910) كان مدهشا في حدود فطريته وهي التي ألهمت فناني الحداثة الرغبة في اكتشافه، أما القاسمي فقد كان رائدا ومغيرا في ما طرحه من أفكار فلسفية، لا تتعلق بتقنيات الصورة حسب، بل وأيضا بطريقة التفكير فيها.
بمعرضه عام 1969 في قاعة باب الرواح وهي كبرى قاعات الرباط احتل القاسمي مكانة متميزة في المشهد التشكيلي المغربي، وهو الموقع الذي حافظ عليه عبر سنيّ حياته التي تميزت بالكدح من أجل الجمال.
عن جدارة كان القاسمي عضوا في اتحاد كتاب المغرب، فهو شاعر متميز، غير أنه فضل ذات مرة أن يقف رساما إلى جانب عبداللطيف اللعبي، الشاعر الذي قضى عشر سنوات في السجن بسبب أفكاره السياسية.
مأثرة القاسمي الحقيقية تكمن في أنه تخلى عن كل شيء من أجل أن يكون رساما. لقد انتصرت سلطة الرسم في النهاية على كل السلطات، غير أن “مكائد الحياة” وهو عنوان الكتاب الأخير الذي كان يعمل عليه مستعينا بقصائد اللعبي ولم يكمله قد انتصرت عليه.
إذا كان هناك فنان مغربي أكثر تمردا من القاسمي فأنا لم أسمع به.
القاسمي الفنان التفاعلي
ولد محمد القاسمي في مكناس عام 1942. لم تسمح له ظروفه المعيشية لدراسة الرسم أكاديميا، بالرغم من شغفه المبكّر به. عام 1959 كان أول عهده في التعرف على تقنيات الرسم ومواده، حين شارك في دورة تدريبية للفن التشكيلي، نظمتها وزارة الشباب والرياضة. قبلها كان يتردد على مرسم إحدى الرسامات الأوروبيات وكانت مقيمة في مكناس.
في سن التاسعة عشرة زار مدريد ورأى في متحف برادو الأعمال الأصلية للفنانين الإسبان التي سبق له وأنّ لونها بعد أن رآها في أحد الكتب مطبوعة بالأسود والأبيض. عام 1965 أقام أول معارضه وذلك في مدينة إقامته، غير أن انطلاقته الحقيقية بدأت عام 1969 حين أقام معرضه الأول في العاصمة. انتسب في وقت مبكّر من حياته إلى الجمعية المغربية للفنون التشكيلية واتحاد الكتاب في المغرب وكان ناشطا في المؤسستين إضافة إلى دأبه على إقامة المعارض الشخصية والمشاركة في المعارض الجماعية داخل المغرب وخارجه. فكان معرض الرواق المركزي بجنيف عام 1982 كما معرضه “مغارة الأزمنة الآتية” بالمركز الثقافي الفرنسي بمدينة الرباط عام 1993.
لم يثنه المرض الذي أودى بحياته عام 2003 عن إعلان موقفه المناوئ للحرب الذي شنتها الولايات المتحدة على العراق فنظم معرض “الإبداع في مواجهة الدمار والتخريب” الذي تنقلت لوحاته بين البحرين وبلجيكا وتونس والولايات المتحدة. إلى جانب الرسم، كتب القاسمي الشعر ونشر مقالات عن الفن في الصحافة المحلية. وكان ناشطا في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في المغرب كما اختير ضمن نخبة من الشخصيات الفكرية والفنية والعلمية لعضوية اللجنة التي أعدت الميثاق الوطني لإصلاح نظام التربية والتكوين. عام 1990 أصدر كتابه الشعري “صيف أبيض” وفي عام 1994 صدر له كتاب “رياح بنية” بمشاركة الشاعر حسن نجمي. كان القاسمي فنانا تفاعليا. وهو ما دفعه إلى تطبيق تجربة “المرسم المفتوح” التي تعلم أصولها من إقامته الطويلة في باريس. تلك التجربة تعني أن يقوم الرسام بفتح أبواب مرسمه للجمهور بضعة أيام في السنة ليتعرف ذلك الجمهور على ما خفي من أسرار العملية الفنية وليشترك مع الفنان في حوار مباشر.
لقد ربيت جسدي
اجتهد القاسمي في مجال تكوين شخصيته المعاصرة، فكان بالرغم من عدم دراسته الفنية الأكاديمية مثقفا كبيرا، هو على دراية ومعرفة بكل تفاصيل العملية الفنية وفلسفة وتاريخ الفن، غير أنه في الوقت نفسه لم ينكر التأثيرات التي مارستها البيئة الثقافية في مكناس على حساسيته الجمالية.
فحين يكون الحديث عن ذاكرته البصرية فإن الفنان يعود إلى طقوس الطائفة العيساوية التي كانت تقام حول ضريح الولي الصالح بالمدينة. لقد سكنت رايات المواكب كيانه لتسلمه إلى اللون الأسود الذي صار خلفية مفضلة للوحاته. هناك حيث يقيم لغز حياته ونشوته الروحية وخلاصته لغته.
في العودة إلى ذلك المصدر يمكننا أن نكتشف الكثير من أسباب التوتر الذي تميزت به لوحات القاسمي. لقد اندفع الفنان إلى بحثه عن الحرية انطلاقا من لحظة تحرر من الجسد، وهو ما جعله يحرر في أحيان كثيرة اللوحة من جسدها التقليدي. عصامية الفنان قادت الفنان نفسه إلى اختراع مفهوم “عصامية اللوحة”. وهو ما دفع نقاد الفن إلى اعتباره فنانا تجريبيا، وهي صفة تخون القاسمي، من جهة إخلاصه لأصوله الروحية.
كانت الممارسة الفنية بالنسبة إلى القاسمي حركة مفتوحة على المجهول. لا أسلوب مسبقا. “الأسلوب يأتي بعد الموت” كما يقول بيكاسو.
يقول القاسمي “لقد عودت نفسي أو بتعبير أدق ربيت جسدي على تلقي الأشياء في سخونتها وقتامتها وعنفها”.
القاسمي وأبوه المغربي
حرص القاسمي بحساسيته الجمالية الرفيعة على أن يكون جزءا من تاريخ المحاولة الحداثوية في المغرب، فكان أن وجد في الفنان المغربي الرائد الجيلالي الغرباوي (1930ــ1971) ضالته. يقول واصفا علاقته بالغرباوي “ربما أميل إلى جانبه أكثر.. لتعامله مع المادة واختراقه الأشياء وعدم احترامه للقوانين وللثقافات في مفهومها المبتذل. ولو كان الغرباوي أميركياً أو فرنسياً أو ألمانياً لكان أباً لجيل ليس بالنسبة إلى المغرب فحسب، بل أيضاً على المستوى الدولي، وعمله لا يزال إلى الآن يتمتع بحيوية غريبة وقوية، ولهذا أضعه ضمن الرسامين الكبار في العالم العربي الذين أحسوا بأزمة المرحلة وبالتناقضات الاجتماعية والثقافية. الغرباوي لم يكن ترقيعياً، فهو لا يعطيك جزءاً من شيء كي يقنعك بأنه يشتغل على الأصالة والمعاصرة وبأنه يبحث. كان الغرباوي كلياً وشمولياً، ويحس بالأزمة ويترجمها فنياً”.
ذلك رأي يمكنه أن يكون تلخيصا لفلسفة القاسمي في الفن. وهي فلسفة تقوم على أساس الحدس الشعري. كان الرسام عميقا في التزامه الإنساني، غير أنه لم يفرّط مطلقا بشروط بيعته للجمال. وهي بيعة لا تقبل النقض. لذلك كان فضاؤه يتسع. كانت أصالته كما هي أصالة الغرباوي من قبله أصالة معنى ولم تكن أصالة شكلية. كان القاسمي عروبيا من جهة التفاته إلى المشرق العربي. لا على مستوى العروض التي أقامها بل وأيضا على التماهي مع التجارب الفنية في العراق وسوريا ولبنان.
سيرة القاسمي في الفن هي مجموعة متلاحقة من التحولات التي يمكن أن تختصرها مقولة الفنان نفسه “إنني أنفتح على السماء وأراني أخترق الأزرق منها، وأراني أنحني لأشرف على الأرض فإذا هي صلصال، كل شيء يأخذني، فأنسى نفسي ولا أتمالكها”.
أحمد جاريد رسام الأناقة بشقائها
وصفه أحد النقاد بالمتصوف الأنيق في استعارة واضحة من الشاعر عبدالطيف اللعبي. لا بسبب الثياب البيضاء التي يرتديها بأناقة لافتة تهبه مظهر ملاك مستفهم، بل لأن فنه مسكون بأجنحة خفية تحلق بها لغته التي تتميز برشاقتها وخفة مفرداتها.
مغامرته التجريبية في الرسم تنطوي على قدر لافت من التماهي مع لغة المتصوفة وهي تسعى إلى تدريب العين على أن تسمع ما ينزلق على اللسان من إيقاعات لا تسمع بالأذن.
ثقة بالرسم
يرسم كما لو أنه يكتب يومياته في مخطوطة كانت قد كتبت على هيئة طبقات من الكتابة والمحو المتداخلين. طبقات تقفز بينها الرسوم في محاولة من الرسام لإنقاذ ما يتبقى بين يديه منها.
حين تعرفت عليه أخبرته أننا تأخرنا ثلاثة عقود على الأقل في صداقتنا. وكنت أقصد أننا كنا طوال تلك العقود نفعل الشيء نفسه. فإذا ما كنت في الكتابة قد أهملت السطر الأول فإن جاريد لم يقف في انتظار أن تكون كائناته مستعدة للظهور قبل أن يرسم.
ثقته بالرسم جعلته يرسم من النقطة التي لن تكون العودة منها ممكنة. يذهب إلى محترفه يوميا لكي يرسم لا لكي يجلس منتظرا الإلهام. يهبه العمل اليومي المستمر القدرة على أن يستحضر كائناته الملهمة التي لا تفارقه. تبدو نزهته على السطوح البيضاء، في ثناياها، بين طرق متاهاتها كما لو أنها نوع من استعادة لغة طفل صامت.
المثقف المنحاز إلى الجمال
ولد أحمد جاريد في الدار البيضاء عام 1954. بعد دراسته العليا في جامعة محمد الخامس بالرباط عين أستاذا للفلسفة وفيما بعد كلف بإلقاء دروس في علم الجمال بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء.
كان نشاطه في مجال التنمية الثقافية لافتا، وهو ما ظهر من خلال تأسيسه لجمعية محترفات الفنانين عام 1997. بعدها عمل مستشارا في وزارة الثقافة ثم مديرا لديوان وزير الثقافة حتى عام 2005.
أسس برفقة الشاعر محمد الأشعري المعرض الوطني للفنون التشكيلية عام 2004. إلى جوار تلك السيرة العملية كان الرسام يؤسس لسيرته الفنية من خلال معارض شخصية أقامها في المغرب وعروض شارك فيها في مناطق مختلفة من العالم، كان آخرها معرضه الشخصي المشترك برفقة الرسام السوداني راشد ذياب في الكويت “قاعة بوشهري”.
معادلة الرسام المثقف يمكن أن تكون مضمونة النتائج مع جاريد على مستوى انحيازها إلى الجمال الخالص. فمع أن جاريد لا يكترث كثيرا بالمفكر الذي يسكنه فإنه لا يقلل في الوقت نفسه من قدرته الساحرة على تفكيك الألغاز وهو يرسم. متعة أن تراه وهو يرسم لا تفوقها أيّ متعة أخرى. وهو ما اختبرته شخصيا.
غير مرة رأيته يرسم. وكنت أخشى الاقتراب منه لكي لا أكسر زجاج عزلته. كمن يتعبّد كان يتأمل لوحته ليستخرج من أعماقها ما تتكرم بتقديمه من هبات باذخة في كرمها. كان منفيا في الـ”هناك” التي هي ليست استمرارا للـ”الهنا” التي تجمعنا به كائنا يصلح للصداقة.
رسم جاريد بطريقة تمتع العين ولا تحملها تبعات أسئلة لم يجب عليها أحد. كان لديه من الانحياز إلى الرسم الخالص قدر يكفي للدفاع عن تلك المتعة البريئة. أخلص جاريد إلى صوت المتصوفة الخفيض مثلما خلص إلى الرسم التقليلي. كانت ريبته بالعالم الواقعي هي نفسها في الحالين.
ثراء خزانته اللغوية لم يعبّر عن نفسه عن طريق بلاغة متحذلقة وإنشاءات مرسلة. كانت قوته في الاقتضاب هي مصدر سلطته التي يمارسها على الفكرة وعلى تجلياتها اللاشكلية.
على هذا المستوى كانت المزاوجة ممكنة بين عوالم الحلاج وابن عربي وعمر الخيام والنفّري وبين عوالم تابيس ومارك روثكو وسي تومبلي. ما أنجزه جاريد تقنيا متأثرا بعمالقة الرسم الصفائي كان قد وجده متاحا في فكر المتصوفة.
وهو ما يسّر عليه أن يهب الخشن ملمسا ناعما. وكان ذلك التحايل مدخلا لعالم تكون فيه المواد النباتية والتراب ومساحيق الصخور والمعادن ونشارة الخشب بمثابة العتبة التي تمهد للانتقال إليه باعتباره ضالة وجود تصويري.
بمعنى أوضح فإن جاريد لم يسع إلى التوفيق بين ما نشأ عليه فكريا وبين ما شغف به فنيا، بقدر ما كان موهوبا في اكتشاف الخيط السري الذي يصل فكر المتصوفة وجوهر التجريد في الرسم. بحيث كان من الممكن رؤية سي تومبلي باعتباره ابن عربي منتحلا أو معاصرا. بالنسبة إلى جاريد فإن كل شيء يظل مقيما في حقيقته ما دام فعل الرسم مقيما في توتره الذي يستلهم قوته من مواد الطبيعة.
مغربيا بطبعه كان جاريد. الروائح في رسومه تصل قبل الأصوات. لن تصل الكائنات. ولكن أيّ كائنات تلك التي نتساءل عن وصولها؟
أعتقد أن جاريد كان قد حسم أمره واقعيا في وقت مبكّر من ممارسته للرسم. الرسام المثقف ينظر إلى العالم باعتباره متاهة من الكتب التي لا تزال في حالة كتابة وهو ما جعله يجرؤ على اعتبار رسومه تمرينات لرسم لم يكتمل بعد. ولأنه يكره الجماليات المتاحة فقد كان على جاريد أن يبقي المفتاح في باب لوحته في انتظار مَن يفقه ما تخفّى من جمالها. فأحمد جاريد هو فقيه جمال غائب.
يوم من أجل لا أحد
تعدنا رسوم جاريد بفتح روحي، قد لا يكون قريبا على المستوى المادي. ولكنّ عالما تلتقطه تلك الرسوم من بين تفاصيل صوره المشاعة سيضعنا في قلب مغرب، لن نملّ من إعادة صياغة أشكاله التي يصدمنا تغيّرها بما لا نتوقع من مشاعر.
ما يقع على سطوح رسوم جاريد هو عبارة عن جدل بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي في إطار البحث عن صيغة جمالية، يشكل الرسم من خلالها عالمه الذي يزخر بالمسلّيات. ما لم يره المرء في رسوم جاريد سيكون مصدر سرور له. شيء من متعة الرسم سيكون مفاجئا، وهو ما يعول عليه الرسام.
لن يكون الرسام مهتما بسؤال أحد. لكنّ أحدا لن يكون معنيا في البحث عن الرسام في رسومه. وهو ما سيضعه الرسام في الاعتبار وهو يكتب دفاتره. “هناك يوم كان قد مر من غير أن ينتبه أحد” يقول جاريد.
يستخرج الرسام المغربي من ذلك اليوم الغائب فراشات وسناجب وطيورا ونساء وأقنعة وأشجارا وزهورا وبحيرات وكتبا وطرقا وأرائك ومنتظرين ورفيف أجنحة وأصواتا تصل بعد أن تختفي وجوه مَن أطلقوها. تهذب رسوم جاريد خطواتنا ونحن ندخل إلى عالم لم نألفه من قبل.
درس عظيم في الرسم
برسوم من نوع رسوم أحمد جاريد يمكننا أن نراهن على رسم لا يدير ظهره إلى الماضي بقدر ما يستأنف حيويته من اللحظة التي توقف عندها ذلك الماضي متأملاً معجزاته.
بالنسبة إلى جاريد فإن التقنية ليست كل شيء، غير أنها تقع في صميم تجربته. في كل سنتيمتر من لوحته هناك إتقان مدرسي، هو بمثابة إشارة إلى شكل عالجه الرسام قبل أن يخفيه.
ما انتهى إليه جاريد من خلاصات بصرية هو متاع سفر طويل بين الأشياء، مرسومة ومحكية وما لا يمكن النظر إليها إلا في سياق خرافتها الرمزية.
إنه يسلّينا من أجل أن نكون مستعدين للقاء غد، تكون فيه المعاني متحررة من أشكالها الثقيلة. وهي المعاني ذاتها التي سيكون على الرسام الاستغناء عنها من أجل أن تخلص الحياة إلى صفائها. يسلمنا أحمد جاريد إلى عالم تخدمه المعاني من غير أن تتحكم بمصيره.
أن نتحرر من الرسم هو ما نتعلمه من جاريد. وهو واحد من الدروس العظيمة. من أجل أن أصل إليه قضيت ثلاثة عقود وأنا أشم روائح رسومه.