محمد أبوالفضل يكتب:
الانتخابات الفلسطينية اليتيمة محليا وإقليميا ودوليا
لم تجد الانتخابات الفلسطينية من يدافع عنها بإخلاص حتى الآن. وكل الأطراف التي كانت تتمنى ولادتها منذ سنوات هي غير قادرة على الذود عنها، أو تفتقر للأدوات الكافية لتسجيل اسم المولود في الوثائق الدالّة على انتسابه كي يخرج للحياة معروف النسب.
تحولت الانتخابات إلى ما يشبه الطفل اليتيم. كل جهة تتنصل منها أو تضع شروطا لتبنيها وتأييدها، أو تظهر عدم الاكتراث بها، ما أدى إلى فقدانها لجانب كبير من البريق السياسي المتوقع أن يصاحبها عندما أعلن عنها الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن) منذ حوالي أربعة أشهر.
مضت هذه المدة في أخذ ورد وجدل، ونقاش حيوي ومفتعل، ومناورات وألاعيب، لكن الطريق إلى الانتخابات بات غير مهيّأ بالمرة. تزايدت التعقيدات المحلية والإقليمية والدولية، وكأن هناك ما يشبه الإجماع على رفضها لعدم القدرة على تحمل ضوابط المقدمات والمخرجات، فضلا عن تكاليف إجراء العملية الانتخابية نفسها، التي تتطلب خطوات إيجابية متعددة، وتحركات ترمم جدران الثقة بين القوى المختلفة.
كشف الرئيس أبومازن عن رغبته في إتمامها، وتخطى مرحلة الرفض ثم التردد الحركي، ودعا إليها متخليا عن حذره السياسي الداخلي، ومتجاوزا الخدع والمطبات التي كبحت قبوله لهذه الخطوة منذ سنوات. تجاوبت حركة حماس معه، ولم تردْ أن تضع العصي وسط عجلاتها. وافقت على مضض بعد أن أدركت مخاطر التصميم على رفضها.
يبدو أن الطرفين، أبومازن وحماس، كانا يدركان صعوبة تطبيقها على الأرض، وحاولا إبراء ذمتهما أمام الشعب الفلسطيني والتظاهر بالقبول، حتى جاءت العقبة الكأداء من قبل إسرائيل، برفضها مشاركة سكان القدس العربية المحتلة في الانتخابات. ولم يُسقط في أيدي الجانبين كما هو متوقع، لأن الفيتو الإسرائيلي أصبح كحبل إنقاذ، في وقت ضاقت فيه الحبال على غالبية الجبهات. فالحلفاء والأنصار والمؤيدون للرئيس أو حماس بدأوا رحلة الانفضاض التدريجي.
فوّت الجانبان الكثير من الفرص التي كانت فيها الانتخابات ملاذا آمنا لقوى مختلفة ومطلبا شعبيا واضحا، وانخرطا في معركة طويلة لكسر العظام الأمنية وتصفية الحسابات السياسية حتى فقدت الانتخابات معانيها الرمزية. تسبب التشبث بالسلطة والقبض على مفاتيحها في الضفة الغربية وقطاع غزة في تغييب النهج الديمقراطي الذي يجبر دوائر متباينة على تأييده.
جاء اليوم الذي لم تجد فيه السلطة الفلسطينية مدافعا حقيقيا عن تحركها السياسي، لأن الدعوة خرجت بعد فوات الأوان، وفي ظل حالة التباس عامة خيمت بظلالها على القضية الفلسطينية، وجرى وضعها على الرف، أو بمعنى أدق في مكان قصي لا يزعج أحدا، ومكّن إسرائيل من ممارسة صلفها المعهود بأريحية سياسية نادرة.
التقدم الذي أحرزته القضية من قبل، على الصعيد السياسي أو صعيد المقاومة، كان عنوانه اللحمة الوطنية والدعم العربي والتفهم الدولي. والآن غابت اللحمة، وتوارى الدعم تقريبا، وانعدم أو كاد التفهم. وفوتت العديد من الفرص إلى الدرجة التي تجرأت فيها الإدارة الأميركية على التلويح بصفقة مشبوهة أُطلق عليها “صفقة القرن”، سوف تُجهز، حال تنفيذها بحذافيرها، على غالبية الثوابت الفلسطينية.
تحتاج الدعوة للانتخابات جملة من الخطوات المخلصة والدقيقة لتجعلها أمرا واقعا يصعب تجاهله من الجهات التي تعمدت عدم التجاوب معها. في مقدمتها تقريب المسافات بين القوى الفلسطينية، والتخلي عن التجاذبات المعتادة وما جلبته من ويلات على الفصائل ذاتها، وأضحت المصالح الحركية مقدمة على القضية، ما أفقدهما زخما سياسيا انعكس على السلبية الراهنة مع أحد المطالب الطبيعية.
لن تكون هناك انتخابات والأجواء الداخلية ملبدة بالغيوم ومعبأة بالاحتقان، والمظلة الإقليمية غائبة، والحضور الدولي منخرط في ملفات أخرى يرى أنها أكثر أهمية من القضية الفلسطينية. لن يتم إجراء انتخابات والأراضي مقطعة الأوصال بهذه الصورة التي جعلت إسرائيل تتحكم في كل كبيرة وصغيرة، والحصول على موافقتها مسألة مركزية لإتمام العملية الانتخابية.
يعي من أطلق الدعوة ومن تجاوبوا معها، بحسن أو سوء نية، أن إسرائيل مرتاحة للصيغة الحالية. السلطة الوطنية منغلقة على نفسها في رام الله، وحماس قانعة بحكم غزة، وبينهما شتات فلسطيني في الداخل، ولا يستطيع المواطنون العبور من منطقة إلى أخرى دون تصريح من قوات الاحتلال.
كيف تصور الرئيس أبومازن أنه يمكن الحصول على موافقة الحكومة الإسرائيلية لإجراء انتخابات في القدس المحتلة، وهي التي سلبت أجزاء كبيرة منها، وتسعى بكل الوسائل لتكريس الأوضاع المختلة؟ هل أقدم على طلبه وهو لديه ذرة شك بالموافقة عليه؟
كان من الذكاء والحنكة ليتوقع ردا سلبيا من إسرائيل. غير أنه لعب على هذا الوتر بهدف رمي الكرة في ملعبها وتحمليها مسؤولية تعطيل الانتخابات، معتقدا أن المجتمع الدولي يمكن أن يتحرك للضغط عليها، ويجبرها على تسهيل هذه المهمة، أو يحصل على براءة شعبية تفيد أنه لم يقف حائلا دونها.
من هنا يأتي سوء التقدير وسوء المُراد. فالمجتمع الدولي الذي هضم قرار الولايات المتحدة باعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل منذ عام، وصمتت قواه الرئيسية على نقل السفارة الأميركية إليها، من السهولة أن يستوعب رفض أي حكومة في تل أبيب إجراء انتخابات في القدس. ومن السهولة أيضا ألا يتجاوب مع نداءات أبومازن المتكررة حيال الانتهاكات المستمرة لحقوق الشعب الفلسطيني ولو كان متعلقا بالانتخابات.
وكان من الممكن أن تصبح هذه الوسيلة طوق نجاة سياسيا بدلا من أن تتحول إلى مأزق في حالة تعطليها أو العزم على إجرائها. حيث أكدت دعوة أبومازن المتأخرة كثيرا أن قراءته للتطورات مبتورة. لم تسعفه خبرته الطويلة في فهم ما يدور من حوله مبكرا، ويتخذ هذه الخطوة في الوقت المناسب. ربما لم تمهله حماس وتصرفاتها هذه الفرصة سابقا، لكن كان عليه عدم التباطؤ كل هذه الفترة، ويبدو مصدوما في الرد الإسرائيلي.
على الرئيس الفلسطيني والقوى الوطنية مواصلة التمسك بمطلب الانتخابات، وقطع الطريق على من وجدوا راحتهم في التعنت الإسرائيلي أو طربوا للعقبات الكثيفة التي تتناثر على جانبي الطريق، وحشد همتهم لردم جزء من الفجوة الواسعة في البيت الفلسطيني، ومناشدة المجتمع الدولي مساعدتهم. فلا تزال هناك قوى مخلصة تنبض بالحياة.
تلتقي الدعوة إلى الانتخابات الفلسطينية مع رغبة عارمة تكتنف شعوب العالم، ومعظم الحكام في الغرب، تطالب بالاحتكام إلى العملية الديمقراطية في المنطقة، وتشجيع النواة التي بزغت في تونس والسودان والجزائر، وقبلهم في العراق ولبنان، على الرغم من المحاصصة الطائفية في كل منهما، غير أن هناك دولا ترى أنها نبتة مشوهة يمكن تعديل وتصويب جيناتها. ويجد هؤلاء في ما يجري من حراك سياسي كبير في هذين البلدين تعديلا لمسارات خاطئة.
من الضروري أن تنتفض القوى الفلسطينية الحية غير الفصائلية للدفاع عن مطلب الانتخابات، حتى لا تبرد الدعوة وتفقد مفعولها تماما وتدخل طي النسيان. فالشعوب قادرة على فرض إرادتها السياسية حتى لو كانت قابعة تحت الاحتلال وحكامها متقاعسون.