د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
سنغافورة وعدن بين انتكاسة الأمس ونهضة اليوم !! (1-2)
لا مجال للمقارنة بين البلدين بين نهضة الأمس وانتكاسة اليوم ..والعكس صحيح ولكن تداخلت عوامل كثيرة دولة وإقليمية وتقلبات سياسية سريعة أدت إلى ما وصل كل منهما إليه ولله في خلقه شؤون !!
كانت كل من عدن وسنغافورة تحت حكم التاج البريطاني تم احتلالهما في وقت واحد تقريبا بعد أن تحولت شركة الهند الشرقية فيما بعد إلى مؤسسة تحكم مستعمرات التاج البريطاني ،وفي الستينات من القرن الماضي حصل البلدان على الاستقلال وتغيرت الأحوال الاقتصادية والسياسية فيهما 180 درجة من الأسوأ إلى الأحسن والعكس.. وسنبدأ في هذه الحلقة ب سنغافورة:
استقلت سنغافورة عام 1963م وهي بلد صغير لا تتعدى مساحته مدينة صغيرة فقيرة جدا لا يتعدى دخل الفرد فيها 400 دولار أي أقل من دولة افريقية مثل غانا, شعبها متعدد الأعراق والقوميات ولا يجمع بينهم سوا الفقر والبؤس أرضها لا موارد فيها ويملؤها البعوض والمستنقعات لم يرغب احد أن تكون تلك البلاد جزء منه تخلت عنها ماليزيا ورفضت أن تكون جزء من أراضيها فكيف تمكن (لي كوان يو) من صنع معجزة سنغافورة وجعلها إحدى أغنى بلدان العالم !!
ولد (لي) في عائلة صينية غنية على عكس غالبية سكان البلاد الفقراء امتلك حياة جديدة وتمكن من إكمال تعليمه في الخارج إلا أن حبه لبلاده دفعه للعودة ليحاول انتشالها من فقرها انشأ حزبا سياسيا ونجح في الوصول لمنصب رئيس الوزراء وهو ما يزال في الخامسة والثلاثين من عمره بعد استقلال سنغافورة عن بريطانيا حاول (لي) إقناع ماليزيا المجاورة بضم سنغافورة إليها لعل وعسى ذلك يخفف من وطأة مشاكلها وفقرها ونجح في ذلك إلا أن الاتحاد لم يدم طويلا، سنغافورة الفقيرة التي لا نفط فيها ولا غاز وفوق ذلك كله تملؤها الصراعات الاثنية، شكلت صداعا للسلطات الماليزية وقرروا التخلي عنها بعد سنتين فقط !!
صدم (لي) بالأمر وأمام شاشة التلفاز بكى السيد (لي) فقد ترك لوحده ليتدبر شؤون بلاده البائسة إلا انه أصر على التحدي ووضع خطة للنهوض ببلاده وخطب في شعبه وقال: لدينا الإرادة والمقدرة التي نستطيع بها فعل الكثير لهذه البلاد وركز على تطوير التعليم وجلب الاستثمارات الأجنبية وتوفير مساكن لائقة بالسكان وبدأ العمل بجد وأقنع كبريات الشركات للاستثمار في بلاده وانشأ الخدمات والمدارس والجامعات وجفف المستنقعات وبنا مكانها البيوت والمصانع رويدا رويدا نهضت سنغافورة وأصبح ميناؤها ممرا لمعظم صادرات العالم ومطارها يعج بالمسافرين وصناعتها عالية الجودة، التعليم يعتبر من بين الأفضل في العالم وغالبية سكانها يملكون منازل وارتفع دخل المواطن فيها من 400 دولار لأكثر من 55 ألف دولار وصادراتها اكبر من صادرات ماليزيا التي رفضت أن تكون جزءا منها رغم أن سنغافورة اصغر بمئات المرات من ماليزيا.
في إحدى اللقاءات قال (لي): كان لدي خياران: إما أن أمارس السرقة وادخل أسرتي في قائمة (فورس) لأغنياء العالم واترك شعبي في العراء و اخدم شعبي وادخل بلادي في قائمة أفضل عشر دول اقتصادية في العالم وأنا اخترت الخيار الثاني ونجح في مسعاه وحقق ما كان يتمنى لبلاده !!
كانت سنغافوره بلدا منخفض الدخل محدود الموارد محروما من البنية التحتية والاستثمارات وفرص العمل. وبعد عقود قليلة، تغيرت الصورة تماما. أصبحت سنغافورة واحدة من أغنى بلدان آسيا، يعود هذا في جانب كبير منه إلى أقامت :
أعلى مراكز الخدمات اللوجستية أداءً في المنطقة.
أصبحت تلك المدينة الدولة الصغيرة حاضنة لأكبر ميناء للحاويات العابرة في العالم، حيث ترتبط بأكثر من 600 ميناء في العالم. واختير ميناء تشانجي السنغافوري أفضل ميناء في العالم يخدمه نحو 6800 رحلة جوية أسبوعيا إلى 330 مدينة. وفي النهاية، أصبحت قيمة التجارة لتلك الدولة الجزيرة تعادل 3.5 مثل إجمالي ناتجها المحلي!!.
لم تكن الإنجازات التي حققتها سنغافورة من قبيل الصدفة. بل هي نتيجة مزيج من السياسات العامة بعيدة النظر والمشاركة الواسعة من القطاع الخاص. هذه التجربة يمكن أن تقدم بعض الدروس لأي بلد نام يسعى إلى تحسين شبكة خدماته اللوجستية. دعونا نتأمل ثلاثة عوامل رئيسية للنجاح:
بناء الربط -1
يعد سوق سنغافورة صغير نسبيا بالمقارنة بمراكز النقل الرئيسية الأخرى. ولكنها تمكنت من إقامة شبكات ربط كثيفة مع المئات من الموانئ في مختلف أنحاء العالم جزافا، بل كانت نتيجة سياسة توسعية استباقية.
وفي إطار هذه الجهود، أبرمت هيئة الطيران المدني السنغافورية اتفاقيات للخدمات الجوية مع 130 دولة وإقليما لزيادة عدد رحلات الربط الجوي. كذلك، عمل الميناء عن كثب مع خطوط الشحن لبناء واحدة من أكثر شبكات النقل البحري كثافة في العالم.
البنية التحتية والإجراءات المبتكرة -2
أقام قطاع الخدمات اللوجستية في سنغافورة بنية أساسية ومنظومة إجراءات عالمية المستوى.مما جعل هذا البلد يفكر تفكيرا مستقبليا على الدوام، كما أسست العديد من المبادرات للمستقبل في كل جزء من سلسلة الخدمات اللوجستية!!.
عند استكمال ميناء الجيل القادم 2030، سيصبح ميناء سنغافورة قادرا على التعامل مع ما يعادل 65 مليون حاوية شحن، مما يجعله أكبر منشأة متكاملة في العالم!!. مشاركة القطاع الخاص-3
تدرك الحكومة أهمية إشراك القطاع الخاص في القرارات الخاصة بالسياسات. ومع مرور الوقت، شكل مشغلو الميناء والمطار مؤسسة واحدة لضمان استمرارهم في تلبية متطلبات هذه الصناعة. ومنذ تحولهما إلى مؤسسة، زاد حجم الشحن في الميناء أضعافا مضاعفة، واستثمرت المؤسسة فيما يقرب من 40 محطة للشحن في مختلف أنحاء العالم.
واليوم، أصبح هناك 20 من أكبر 25 شركة للخدمات اللوجستية في العالم تدير عملياتها العالمية أو الإقليمية من سنغافورة. وقد حفز وجود العديد من الشركات ذات الثقل الكبير هنا الشركات المحلية على محاكاة المعايير الدولية..
.
هذه العوامل الثلاثة— شبكات الربط، البنية التحتية والإجراءات، ومشاركة القطاع الخاص— تشكل منظومة متكاملة تساعد على نجاح الخدمات اللوجستية. يثبت النجاح الذي حققته سنغافورة..وهذا يؤكد أن أي بلد نام محدود الموارد يمكنه من خلال الرؤية الثاقبة والمزيد من العزيمة أن يصبح مركزا متقدما للخدمات اللوجستية. ويحدونا الأمل في أن تلهم قصة سنغافورة النمور الصاعدة الأخرى،ومن ضمنها عدن علها تستعيد ولو جزءا بسيطا من مكانتها العالمية في غابر الأيام !!
أما" لي " باني نهضة سنغافورة فقد أدركوا بعد وفاته بعد وفاته أنهم قد فقدوا شخصا عظيما وقائدا كبيرا خدم وطنه بأمانة وإخلاص.!!
انتظرونا في الحلقة الثانية عن عدن بين الأمس واليوم وبين النهضة والانتكاسة !!
حيث لا مجال للمقارنة بين سنغافورة وعدن .
د.علوي عمر بن فريد