د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
اليمن وانهيار الدولة
هناك أسباب عديدة لانهيار الدول ومنها اليمن حيث يؤكد ابن خلدون أن الهوية القبلية المبنية على البداوة تعرقل استمرار الدولة، ويقول (إذا خشي الناس أن يسلب الظلم حقوقهم أحبوا العدل وتغنوا بفضائله فإذا امنوا وكانت لهم القوة التي يظلمونهم بها تركوا العدل) لان العدل بالنسبة لهم مرحلة وليس منهج أو خلق، ويقول: ( إن الخوف يحي النزاعات القبلية والمناطقية والطائفية والأمن والعدل يلغيها) فإذا زال العدل انهارت العمارة وتوقف الإنتاج فافتقر الناس – ويتبعها تساقط الدول وانهيارها !!
والعدل إذا عم عمر والظلم إذا دام دمر ويقول: ( لا عز للملك والسلطان إلا بالرجال ولا قوام بالرجال إلا بالمال ولا سبيل للمال إلا بالعمارة – ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل.)
ومن أهم شروط العمران سد حاجة العيش والأمن ( أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) وتعني: الأمن والاقتصاد – وهي ثنائية متلازمة !!
وغاية العمران هي الحضارة والترف فإذا بلغ غايته انقلب إلى فساد وهذا يدفع العامة من الشعب إلى الفقر والعجز عن تأمين سبل العيش الكريم وهذا بدوره يؤدي إلى شرخ يتسبب في انهيار الدولة وإذا عم الفساد تبدأ الفوضى.!!
أما في أيام الأمن فرغد العيش فإنها تمضي سريعا وأيام الجوع والحروب والفتن طويلة.ولا بد من عصبة تحمي الدولة – والحاكم الظالم يظهر الشعب له الولاء ويبطن له الكراهية والبغضاء فإذا نزلت نازلة أسلموه ولا يبالون وخير شاهد على ذلك ما حدث للقذافي وصالح والبشير..!!
وهكذا الصراعات السياسية فلا بد لها من نزعة دينية أو قبلية لكي يحفز قادتها أتباعهم على القتال (كما يفعل الحوثي)!!
وفي اليمن كأن ابن خلدون موجود بيننا ..وربما كان سيؤلف مقدمة أخرى عن مسئولين يحتفلون بالوطنية ويتشدقون بخطابات عن مطاردة الفاسدين...بينما تسبقهم أموالهم المهربة إلى الخارج ليلحقوا بها في حال خروجهم من الحلبة وركونهم إلى الراحة والاسترخاء في البلدان الأخرى.
ومن الأقوال الشهيرة والمأثورة للعالم الفذ ابن خلدون أدلة انهيار الدول قوله: (عندما تنهار الدول، يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والكذبة، وقارئو الطالع والنازل والمتسيسون والمداحون والهجاءون وعابرو السبيل والانتهازيون ..تتكشف الأقنعة فيضيع التقدير ويسوء التدبير، ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل، ويشح الأمل وتزداد غربة العاقل، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقا، والى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان )
لقد وصف في مقدمته التي لا سبيل إلى ذكر الكثير منها هنا ما يمر به اليمن حاليا إذ لا يجب أن نكابر ونقول انه لم يصل إلى حافة الانهيار وكل الدلائل تشير إلى ذلك ..كثرة المتفيقهين وتحول الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق وعلو صوت الباطل وانخفاض صوت الحق ..دلائل لا تحصى تجاوزت حتى قدرة ابن خلدون على تصور حال الدول بعد الانهيار!!.
وفي بلادنا العربية تكاد تنطبق حالات الوصف التي حددها ابن خلدون على دول بعينها ، قد يبدو هذا الكلام قاسيا إلا أن الأكثر قسوة منه أن نتجاهل المظاهر والنواميس الكونية التي تحكم ظهور وزوال الدول !!
العالم الفرنسي الشهير برتراند فيكتور أشار إلى انعدام الإحساس بالانتماء للمكان
والرغبة في الهجرة و تحول المواطنين إلى مشروع مهاجرين وتحول الوطن إلى محطة سفر، ابن خلدون لم يتخيل أن يهون الوطن إلى هذا الحد على أبنائه فلا يكتفون بهجرته بل يبيع بعضهم كل شيء فيه مقابل تحقيق منفعتهم الشخصية !!.
ويرصد ابن خلدون العصبية والفضيلة أيام الفتوحات ويرى أنهما تؤهلانها للفتح، ولكن لابد في رأيه من تدخل عامل ثالث لكي تخرج هذه الأهلية من القوة إلى الفعل ذلك العامل هو مبدأ ديني أو سياسي، مهمته أن يحدد الغاية التي تجري نحوها القوة التي نالتها القبيلة، وأن يشحذ كذلك تلك القوة وأن يسير بها نحو طريق أخرى فيحول بذلك - على حد تعبير طه حسين –
دون أن ترتد هذه القوة المكتسبة إلى القبيلة نفسها، وينتهي ابن خلدون من رصد حالة التقاتل والتنافر التي كانت سائدة بين القبائل البدوية قبل الإسلام، وكذلك حالة التآلف والتآخي التي رتبها الرسول «صلي الله عليه وسلم» بين هذه القبائل إلى أن العنصرين الديني والسياسي معاً، عندما دخلا حياة القبائل العربية شحذا قوتها فلم يمض إلا القليل على وفاة الرسول حتى انقضت تلك القبائل على الشعوب المجاورة وشيدت دولة شامخة ويضرب ابن خلدون أمثلة تؤكد أثر العامل الديني والسياسي في حياة الحكم والدول، ويؤكد أنه حيثما
اضطرمت نار غزوة أو ثورة تنتهي بعزل أسرة وإحلال أخري مكانها، مبدأ ديني أو سياسي هو الذي آثار هذه الحركة، فيري أن استعادة قريش للسلطة بعد الإسلام سبب في نشوب حروب أهلية دفعت بني أمية - وهي قبيلة كانت تتمتع قبل الإسلام بسلطان مطلق- إلى رئاسة الدولة في القرن الأول من الهجرة، وكانت غاية الحروب الأهلية التي انتهت بإسقاط تلك الدولة، وإحلال الدولة العباسية محلها هي أن تعاد إلى الفرس سلطتهم التي استلبها العرب من ناحية،
وأن يعاد الملك إلى قريش وبني هاشم التي كانت تنافس الأمويين منذ الجاهلية.. وفي هذين المثلين كان العامل السياسي هو المحرك، ويرصد ابن خلدون العلاقة المتينة بين قوة إيمان الرؤساء بالعامل الديني أو السياسي وكذلك قوة إيمان أتباعهم وجندهم بهذا العامل، وبين نتائج مشاريعهم، فيري أن أسباب معظم الهزائم التي أصابت كثيراً من الطامعين ترجع إما إلى فتور الإيمان لدي قبائلهم وإما إلى زوال العصبية من صفوف الجند، إن كانوا من المرتزقة.
وينتقل طه حسين بعد أن ينتهي من رصد عوامل نشوء وازدهار الحكم والدولة في مقدمة ابن خلدون إلى استخلاص ما يسميه العناصر أو الجراثيم التي تؤدي إلى انهيار واضمحلال الحكم والدولة.
يرصد طه حسين ثلاثة أسباب جوهرية كبري، وهي ميل الرئيس الى الاستقلال بالحكم والانفرادية بعيداً عن الحزب الذي مكنه من الوصول إليه، وهو في حالة الدول الإسلامية الارستقراطية المكونة من زعماء القبائل فينشأ الصراع الذي ينتهي عادة من وجهة نظر ابن خلدون الى انتصار سلطة الفرد أو الأوتوقراطية كما يسميها طه حسين، ويستدعي طه حسين رأي أحد المؤرخين المحدثين وهو فوستل دي كولانج الذي يؤيد نظرية ابن خلدون،
حيث يقرر أنه في بدء نهضة كل مدينة توجد أرستقراطية تحكم، ثم ينشب بعد ذلك صراع بين تلك الأرستقراطية وأقوي زعيم، ويسجل طه حسين أن أفق ابن خلدون المعرفي كان محصوراً في تاريخ المشرق، ومن هنا استخلص قانوناً يفيد أن سلطة الفرد تنتصر دائماً، اعتماداً على التجارب المشرقية وحدها في حين أن التجارب الغربية في المدن اليونانية واللاتينية كانت تشهد عكس ذلك،
حيث كان النصر حليف الأرستقراطية، المهم عند ابن خلدون أن ظفر الاستبداد الفردي يحمل معه أول جرثومة لاضمحلال الحكم، فالهاوية التي تفرق بين الملك المستبد وبين الحزب الأرستقراطي تضطره إلى أن يلتجئ إلى قوة أخري تحميه وتحمي الدولة وتقمع الثورات الداخلية، وهي قوة لا تكونها رابطة الدم، بل هي قوة الجند المرتزقة الذين لا ينصرون الحاكم إلا التماساً لعطائه وللسلطة والبذخ، فيضطر الحاكم إلى الإغداق عليهم وحرمان شعبه وإفقاره وإثقاله بالضرائب مما يثير السخط ضده.
أما السبب الثاني فهو أطماع الأتباع والجند المرتزقة الذين يظهرون الاستعلاء على الشعب، ويتباهون باعتماد الحاكم عليهم، وينتهون عادة إلى الإطاحة به، أما السبب الثالث فيصفه طه حسين على النحو التالي: وفوق ذلك يميل الحاكم وأسرته بطبيعة الأمر إلى أن ينبذوا تقشف الحياة البدوية، وأن يتبعوا نوعاً آخر من الحياة يغلب فيه عنصر الترف واللهو، ويؤدي ذلك الترف إلى إضعاف الدولة إضعافاً مزدوجاً، فيتعود الحاكم وبطانته الفتور والتراخي وزيادة الإنفاق، أعتقد أن الباحثين المحدثين في علم الاجتماع السياسي ونظم الحكم سيضيفون الكثير لابن خلدون!!.
واليوم يتعصب اليمنيون لدول أخرى يعتقدون أنها تقف في المربع نفسه الذي يقفون فيه. فبعضهم يعتبر تركيا المعجزة التنموية التي يجب الاقتداء بها ودعم مواقفها، والبعض يرى تلك المعجزة في إيران، وإذا وقفت قطر في مربع قفز إليه كثيرون، وخرج منه كثيرون أيضا، ليس حسب طبيعة القضية بل حسب التيار الذي ينتمي إليه صاحب الموقف الأعمى وعلاقته بتلك الدولة أو تلك.!!
مؤشرات ومظاهر انهيار الدول التي تحدث عنها ابن خلدون قبل قرون طويلة، يمكن تتبعها بوضوح تام في اليمن، حيث تبدأ من التعصب والنكوص إلى القبيلة، وصعود الغثاء وهبوط ما يمكن الاعتماد عليه.
آثار هذه الردة نحو الماضي البعيد والقريب، والهروب من معطيات الواقع، ومتطلبات المستقبل كارثة يمنية ستستمر لعقود وأجيال عدة، لأنها أحيت كل ما مات من سيئات الماضي، ودفنت كل ما تخلّق من حسناته عبر رحلة نضال طويلة وصعبة قامت بها الحركات الوطنية خلال العقود الأخيرة!!
د.علوي عمر بن فريد