فاروق يوسف يكتب:
جون بالدساري.. أسطورة وضعت لوس أنجلس على الخارطة الفنية
مات قبل أيام جون بالدساري. لا يكفي للتعريف به القول بأنه فنان أميركي مفاهيمي. فهو أب الفن المفاهيمي إلى جانب الأميركي الآخر جوزيف كوست. ولكن كوست أشهر منه؟ ستقال تلك الجملة على هيئة سؤال مشكوك فيه. فـ”بالدساري” كان هو الآخر شهيرا، لكنه لم يكن محبوبا في دوائر النقاد المحترفين، لأنه كان يمارس النقد بأسلوبه ويسخر من كل شيء وكان أيضا يعرف قيمة ما يفعل وتأثيره في المشهد الفني العالمي.
هو كاتب أوّلا ورسام ومصور وصانع أفلام ونحات ومركب أشياء جاهزة أو كما تسمى “تجهيزات”. “لقد فكرت في كثير من الأحيان بنفسي باعتباري كاتبا محبطا” يقول. ذلك ما دفعه إلى التعامل مع اللغة بروح عبثية، جمعت بين الألم والسخرية. فكانت أعماله تُقرأ وترى في الوقت نفسه. بالنسبة له، فإن الكلمة والصورة تتساويان بالوزن ولهما القوة نفسها. في أعماله الكثير من ذلك المفهوم الذهني.
ابن الغرب الأميركي المتوحش كان عاصفا حين يتعلق الأمر بالدعاية. فهو ينظر إليها باعتبارها نوعا من الكذب. لذلك عمل على تعريتها. كان فنه اجتماعيا، وهو المصطلح الذي أستعيره هنا من الألماني جوزيف بويز الذي كان معلم الجميع بمن فيهم بالدساري نفسه. فن بالدساري كان مباشرا، كما لو أنه تعليق على واقعة حية. غير أن ذلك ليس الوصف الصحيح. ذلك لأن خيال الفنان كان يتخطى الواقعة ليذهب إلى معانيها المطلقة.
كان بالدساري محاربا ضد الزيف وتدمير القيم الثقافية واستلاب ثروات الشعوب وتلفيق الأكاذيب وإعادة كتابة التاريخ بطريقة ساذجة ومبسطة بما يقوده إلى نهايات هي ليست من جوهره. وبالرغم من عدائه الساخر للمؤسسات، فإن المتاحف العالمية خصصت أجنحة لأعماله التي كان يودّ لو أنها كانت جزءا من كتب يصنعها باعتباره مؤلفا.
بالدساري الذي أثر في الكثير من فناني عصرنا المشهورين هو مبتكر السرد التشكيلي. وهو نوع فني انتشر في ما بعد، باعتباره واحدا من أهم ركائز الفن المفاهيمي الذي يستند أصلا على معادلة تقوم على امتزاج الصورة بالكلمة واعتبارهما الشيء نفسه. وهو ما يجعل الفني مناسبة لتقريب الذهني من البصري للإجابة على سؤالين هما “كيف أفكر؟ وكيف أرى؟”.
لقد شغف من أجل أن تصل فكرته بصنع سلاسل من المرويات البصرية كما يفعل رسامو الكومكس. غير أن الفكر بالنسبة لبالدساري كان أساس الصورة دائما.
وبالرغم من أن فنه كان ذا صلة بالحياة العامة فإن الوصف الذي كان لصيقا في كل مرة يُقام له فيها معرض استعادي هو “الجمال النقي أو الصافي”. وهو وصف ينطوي على تقييم نقدي يعيد إلى ذلك الفن جاذبيته الأخاذة.
الجمال وحده هو من يهب تجربة بالدساري قيمتها على مستوى تاريخي. لقد أحدث الرجل تحوّلا في وظيفة الفن من غير أن يتخلى عن الجمال. فالمدهش في تلك التجربة أنها أمسكت بالخيوط التي تصل بين الإنساني العادي والإنساني المطلق. إنها ذهبت إلى المطلق الذي يقيم فيه الجمال النقي.
ولد بالدساري عام 1931 في ناشيونال سيتي بكاليفورنيا. حصل على بكالوريوس الآداب عام 1953 من كلية سان دييغو. بعد سنة قضاها في دراسة تاريخ الفن في جامعة كاليفورنيا عاد إلى كلية سان دييغو ليحصل على شهادة الماجستير في الآداب.
في بدء دخوله إلى عالم الفن، شغف بالدساري بالرسم وكان يفكر في أن يكون رساما، غير أنه سرعان ما انتقل إلى دمج النصوص والتصوير الفوتوغرافي في لوحاته. حدث ذلك منتصف ستينات القرن الماضي. وفي السبعينات انهمك في الطباعة وصناعة أفلام الفيديو والنحت والتصوير الفوتوغرافي بحيث أنتج الآلاف من الأعمال الفنية التي حاول من خلالها أن يثبت إمكانية الجمع بين السرد المحتمل للصور والقوة الترابطية للغة داخل حدود العمل الفني.
أكمل دراساته العليا في الفنون في لوس أنجلس ثم انتقل للتدريس في معهد كاليفورنيا للفنون بفالنسيا بين عامي 1970 و1988. من بين التلامذة الذين درسهم هناك الكثير من الفنانين المعاصرين ممن نالوا قدرا من الشهرة وكان لهم حضور لافت في المشهد الفني العالمي مثل مايك كيلي.
حاز بالدساري على جائزة الإنجاز مدى الحياة للفنون الأميركية وجائزة الميدالية الوطنية للفنون عام 2014، كما نال جائزة الأسد الذهبي لإنجاز العمر في بينالي فينسيا. أقام أكثر من 300 معرض شخصي كما شارك في أكثر من 1000 معرض جماعي في الولايات المتحدة وأوروبا.
تنوعت أعماله بين المطبوعات والكتب الفنية وأشرطة الفيديو واللوحات الإعلانية وفن التجهيز. وفي عام 1970 أحرق بالدساري جميع اللوحات التي رسمها على القماش من أجل أن يُظهر انتماءه العميق والصادق إلى عالم الفنون المعاصرة.
“كيف أفعلها؟”، كان ذلك هو سؤاله الحائر وهو الذي درس الأدب ورغب في أن يكون فنانا. “أنا أتساءل عن كيفية القيام بذلك”، لم تفارقه تلك الجملة. غير أن بداياته في التعلم كانت صحيحة. لقد أتقن الرسم بأساليب وتقنيات الرسامين الذين أحبهم، ماتيس وسيزان على وجه الخصوص. لذلك فإنه اكتسب مهارة تقنية كانت تؤهله لأن يكون رساما كبيرا. غير أن الإلهام خانه. كانت صلته بما يفعل مشوشة.
كانت فكرة أخرى قد سيطرت عليه غير أن يكون رساما كبيرا. يومها شعر بالفشل وصار يفكر بمادة الحياة المباشرة. قبل بالفشل وتوقف عن الرسم، فكان ذلك القبول بداية للنجاح. لقد انتقل إلى ما يسمى بـ”الرسوم النصية” بمعنى أن يرسم نصا كما هو مكتوب. لقد صار صانع فن بدلا من أن يكون رسام لوحات.
“أنا أصنع فنّا” كان ذلك عنوان فيلمه الأول. وهو الذي يمكن اعتباره واحدا من أهم ركائز الفن المفاهيمي. كان الفن حسب الفيلم هو عبارة عن مسألة جمع الصور ومن ثم إعادة ترتيبها. لكن لا يوجد ما يكفي من الصور في مقابل العدد الهائل من الفنانين. لذلك ينبغي أن يقوم الفنانون بصناعة صور جديدة.
كان ذلك موضوعا ملهما يتعلق بالحياة المعاصرة بكل تقلبات أحوالها، لتتحول الصور التي لم يتم إدراجها في قائمة الجماليات إلى أيقونات. لقد صور بالدساري المرئيات أثناء قيادته للسيّارة. وكان القصد من ذلك تحويل الصور إلى أيقونات كما هو حال أيقونة الغسيل. وهي عبارة عن صورة سيارة كانت تُغسل في الطريق.
كانت سلاسل بالدساري تُعرض في المتاحف لتكون درسا بهدفين. الهدف الأول يكمن في كونها محاولة للتعريف بالفن المعاصر. أما الهدف الثاني فمن خلاله تقع الرؤية الشعرية التي انطوت عليها أعمال بالدساري التي انتقلت بما هو عادي إلى مكانة أسطورية اكتسبها من كونه صار مادة فنية.
من ذلك المعرض الذي أقيم في مدينة مكسيكو بعنوان “تعلم القراءة مع جون بالدساري” كما عرضت 26 سلسلة بعنوان “طواحين الهواء” في زيورخ عام 2018. كما تم عرض سلسلة بعنوان “سلسلة التبريد” في نيويورك عام 2019. “يشرب المفاهيمية مع العبث البهيج ولم يتوقف أبداً عن عالم التجريب”، ذلك ما قاله الناقد أندرو روسيت في رثاء بالدساري. الرجل الذي كان ضروريا لتطوير الفنون المعاصرة. وهو الذي وضع لوس أنجلس على خارطة العالم الفني. ذلك أمر كان مهما بالنسبة لأميركا التي تسعى إلى أن ترتقي مدنها إلى مصاف المدن التاريخية التي عُرفت باهتمامها بالفن. بالدساري أكسب لوس أنجلس تلك القيمة