علي الصراف يكتب:
ملح الأرض وعشبها في "المنيو" الفلسطيني
يتوفر أرشيف الصراع على أرض فلسطين على صورة تظهر فيها امرأة فلسطينية تحتضن شجرة زيتون كما لو كانت تحتضن ابنا، بينما تقف في جوارها عربة عسكرية إسرائيلية توجه الأمر لكي يتم اقتلاع الشجرة.
هذه الصورة يمكن أن تُفهم على غير نحو. ولكن ثمة نحو غائب، هو أن الفلسطيني يرتبط بأرضه ارتباط معيشة كما قد لا يفعل شعب آخر. وهذه مشكلة غير منظورة بالنسبة إلى إسرائيل، ولا يوجد مصطلح “ديمو – طبيعي” يمكنه أن يلخّص المعضلة لمخططي استراتيجيات الاحتلال. إذ قد يمكن للاحتلال أن ينتزع الأرض من الفلسطيني، إلا أنه لا يستطيع أن ينتزع الفلسطيني من أرضه، لأنه يتنفّسها ويأكل من عشبها، في علاقة لا تشترط سياسة ولا منطلقات نضالية أو تحررية.
كل شعوب الأرض تأكل من أرضها ما تزرع. بيد أن الفلسطيني يأكل مما يزرع ومما لا يزرع. ومواسم البقاء هناك لا تنتهي. حتى لكأن الأرض تعرف ما ینبغي.
وإذ لا يحتاج المرء أن يقيم تصوّرا فلسفيا مع طعامه، فإن الفلسطيني لا يحتاج أن يُضيف إلى علاقته مع أرضه أيّ مغزى إضافي. إنها وجوده المادي فحسب؛ جزء ثابت من يوميات طعامه، ومن استثنائية البدائي والمتوارث فيها وفيه.
الفلسطيني يحمل أرضه معه أينما ذهب أيضا. وهذه مشكلة أخرى. الزيت والزيتون والزعتر جزء من مائدة كل يوم تقريبا. والزعتر، بين الكثير جدا مما تُنبت الأرض، نبات بريّ، وهو من نوعين، أبري وورقي، وكلاهما يحمل من غبار تلك الأرض وملحها ما يشكل جزءا من ديمومة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، إذا شاء المرء أن يستخدم تعبيرا أقل قدسية من “الأرض” بمعناها الفلسطيني.
القدسية قائمة على أيّ حال. إنها جزء من الصلة “الحيوية” بمعناها الحياتي البسيط. والأرض هناك جزء من الهوية الاجتماعية، بدرجة قد لا تناظرها صلة أيّ فلاح بأرضه.
الفلاح يزرع، وينشئ من العلاقة مع أرضه صلة حياة. ولكن ماذا بشأن ما لا تتم زراعته، بل ينبت ليصبح طعاما ليس بأقل أهمية من أيّ طعام آخر؟
الرجلة (أو البقلة)، والخبيز والليسان والحمصيص “الذي يؤكل مع الخبز المحمّص” والعقّوب والريحان وعشبة الأسد والحويرنة التي تؤكل باللبن، وعين الجرادة “نبتة الشبت”، التي تؤكل زهرتها بالذات، والكراث، والهليون (السباراغوس) وقرن الغزال، واللوف الذي يؤكل مع البيض، كلها أعشاب برية، تنبت من حيثما شاءت الأرض، لتُطعم وتغدق في العطاء، للفقير والغني. وفي الواقع، فان “المنيو” الفلسطيني، غني للفقير وللغني. وهو ذاته الذي يرسم ملامح الطبائع غير المقروءة التي تجعل الفلسطيني هو نفسه أكان فقيرا أم غنيا. إذ لا بد لقاسم من العشب أن يقسم بينهما الملامح.
ونفحة العشب جزء من النفحة القدسية للأرض. لا تدري أيهما أول. ولا تدري أيهما الذي يُغري بما يُغري. واحد للحياة وآخر للتضحية بها.
ولملح الأرض وعشبها سلطة على الفلسطيني كسلطة التكوين. ليس لأنها في كل مائدة، بل لأنها جزء من الطبيعة الاجتماعية والتقاليد أيضا. فهي جزء من مكوّنات الوجود غير المحسوس. ولكنها بما تحمله من ارتباطات ووشائج تكاد تشكل “قوة” خفية، ذات سطوة ونفوذ.
وثمة من تلك الأعشاب ما يشكل وجوها أخرى للعيش. القرنيص الذي يُستخدم لتقوية جهاز المناعة، والعلندة (أو القضّاب) الذي ينمو بالقرب من نبتة الصبار وشجرة الزيتون ويستخدم ليكافح السرطان وفي علاج بعض أمراض الجهاز التنفسي، والشيح الذي يستخدم كتوابل، والجعدة، والزعموط الذي يستخدم في إنتاج العرق، والمرامية التي لا يكاد يخلو منها بيت، شاي غني بالكثير من الفوائد. وزهرة الزعرور، التي تساعد في تقليل نسبة الكولسترول في الدم وتقوية عضلة القلب.
إنها أرض ولاّدة بطبيعتها. ويكاد كل ما دونها يبدو عاقرا أو أجدب. وليس كمثل ذلك التلوين الهائل لاستخدامات الأعشاب في الطعام، كما يمكن الجزم. وهذا يعني ما يعنيه في بناء النسيج الوجودي عندما يتصل بالعلاقة مع الأرض.
إنها قوة، يمتثل لوجودها كل فلسطيني. حتى لكأن الأرض، بشعابها وأعشابها، جزء من طبيعة الحياة نفسها.
معضلة إسرائيل القصوى هي أنها لا تملك البداية ولا البدائي على أرض يمكن للفلسطيني أن يتنفّسها وأن يحملها معه ويظل من ملحها وغبارها يغتذي.
عندما يدرك الإسرائيلي أنه لن يهزم الزيت والزيتون والزعتر، فسيفهم كيف أنه لا يملك من تلك الأرض شيئا، حتى ولو اقتلع ما اقتلع. فتلك الأرض تظل تغدق وتعطي.