علي قاسم يكتب:

لا شيء في إسطنبول يوحي بأن تركيا يحكمها إسلاميون

الانتماء الإسلامي القديم للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والجهد الدؤوب الذي يبذله وحزبه من أجل تجاوز البنية السياسية والقانونية العلمانية للبلاد، إضافة إلى ما تتحلى به المدن التركية من مظاهر اجتماعية متحررة، هي عوامل متداخلة تحث على التساؤل عن طبيعة العلاقة التي تجمع اليوم بين الرئيس التركي وتنظيم الإخوان، ومدى تأثير تلك العلاقة في صياغة أردوغان لطموحاته التوسعية.

إذا سنحت لك الفرصة للقيام بزيارة إلى مدينة إسطنبول، تحديدا منطقة السلطان أحمد، قلب المدينة التاريخي، الذي يحتوي أهم معالم الحقبة العثمانية، وتزامنت زيارتك للمنطقة مع حلول شهر رمضان، ستفاجأ حتما بالمشهد الذي ستراه.

معلوماتك تقول إن تركيا دولة إسلامية، يحكمها حزب العدالة والتنمية بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي لا يخفي تعاطفه ودعمه لتنظيم الإخوان المسلمين، والإسلام السياسي. بل هو متهم أيضا بتصدير الجهاديين إلى سوريا، وحاليا يقوم أيضا بتصدير الجهاديين إلى ليبيا.

في شارع رئيس، بمنطقة السلطان أحمد، تنتشر المطاعم على جانبي الطريق، تفتح أبوابها منذ الصباح الباكر وحتى وقت متأخر في الليل، لا شيء يوحي بأنه شهر الصوم والامتناع عن الطعام.

ومع اقتراب وقت الإفطار لا تستغرب أن تجد البعض يشربون البيرة المثلجة، بينما على مقربة منهم ينتظر مؤمنون أذان موعد الإفطار؛ أمامهم حبات تمر، وصحن حساء ساخن، وكأس من اللبن.

ستفاجأ، خاصة إن كنت قد زرت مدينة مثل القاهرة أو مراكش أو بغداد، أو دمشق أو أية مدينة في بلد عربي أو إسلامي؛ حيث المطاعم في شهر رمضان مغلقة، لا تقدم فيها الكحول إلا في أماكن مغلقة وللزوار الأجانب فقط.

لا شيء في إسطنبول يوحي بأن تركيا يحكمها الإسلاميون، ماذا يحدث؟ وهل معلوماتنا عن علاقة أردوغان بالإسلام السياسي، وتنظيم الإخوان المسلمين حقيقية؟

كل التهم الموجهة إلى أردوغان مثبتة، ولا تحتاج إلى أدلة إضافية، بل يمكن إدانته من أقواله، وليس فقط من أفعاله. ما نحتاج للكشف عنه هو دوافع أردوغان، وحقيقة ادعاءاته الفكرية والسياسية.

طموحات أردوغان الجيوسياسية باتت معروفة للجميع، رغم بذله كل الجهود لتغطيتها بلباس الورع والتقوى، مذكرا بأمجاد الحقبة العثمانية، التي لم يجد أفضل من المسلسلات الدرامية للتذكير بها، خاصة وأن كل ما يروّج وينشر من معلومات يقول إن العرب لا يقرؤون.

تراجع القاعدة الشعبية للأحزاب العلمانية في الدول العربية، خاصة اليسار، وتصاعد شعبية القوى الإسلامية، هو ما شجع أردوغان على وضع كل رهاناته على الإسلام السياسي.

يرى أردوغان في تلك القوى الحصان الذي سيحقق عن طريقه طموحاته التوسعية، وأحلامه بإحياء ما يرى فيه عصرا لنهضة شهدتها تركيا خلال حكم العثمانيين.

سبق لأردوغان أن كسب الرهان داخليا، وقصة دخوله عالم السياسة ومسيرته التي تدرج فيها وصولا إلى أعلى المناصب تؤكد ذلك.

نشأ أردوغان المولود بمدينة إسطنبول يوم 26 فبراير عام 1954، في أسرة فقيرة، فقد قال في مناظرة تلفزيونية مع دنيز بايكال، رئيس الحزب الجمهوري “لم يكن أمامي غير بيع البطيخ والسميط في مرحلتي الابتدائية والإعدادية؛ كي أستطيع معاونة والدي وتوفير قسم من مصروفات تعليمي؛ فقد كان والدي فقيرا”.

التحق في البداية بمدارس دينية إسلامية، ثم تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية في جامعة مرمرة.

سيبقى الإسلام السياسي، ومعه تنظيم الإخوان، جيشا مقدسا يقوده أردوغان في الخفاء لإحياء حلم الخلافة

بداية احترافه للعمل السياسي كانت في نهاية عقد السبعينات مع حزب الخلاص الوطني، الذي كان يتزعمه حينها نجم الدين أربكان. ومع الانقلاب العسكري عام 1980 بقيادة الجنرال كنعان إيفيرين، ألغيت في تركيا جميع الأحزاب السياسية، وبحلول عام 1983 عادت الحياة الحزبية وعاد نشاط أردوغان، من خلال حزب الرفاه الإسلامي.

في عام 1989 دخل حزب الرفاه الانتخابات البلدية، محققا نتائج جيدة، وترشح أردوغان في بلدية باي أوغلو. لكنه خسر تلك الانتخابات، وبحلول عام 1994 رشحه الحزب إلى منصب عمدة إسطنبول، واستطاع أن يفوز في هذه الانتخابات، خاصةً مع حصول حزب الرفاه الإسلامي على عدد كبير من المقاعد.

النجاح السياسي لم يحمه من سلطة القانون؛ ففي عام 1998 اُتهم أردوغان بالتحريض على الكراهية الدينية، ليكون مصيره السجن، والمنع من العمل في الوظائف الحكومية، ومنها الترشح للانتخابات العامة، بسبب أبيات من الشعر رددها أثناء خطاب جماهيري “مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا”.

لم تثن هذه القضية أردوغان عن الاستمرار في مشواره السياسي، بل نبهته إلى أن الاستمرار في هذا الأمر، قد يعرضه للحرمان الأبدي من السير في الطريق السياسي، كما حدث لمعلمه نجم الدين أربكان، فاغتنم فرصة حظر حزب الفضيلة، لينشق مع عدد من الأعضاء، منهم عبدالله غول، ويؤسس حزب العدالة والتنمية في العام 2001.

أراد أردوغان، منذ البداية، أن يبعد عن نفسه أي شبهة لصلة حزبية وفكرية مع أربكان وتياره الإسلامي، الذي أغضب المؤسسات العلمانية في عدة مواقف، فأعلن أن حزب العدالة والتنمية سيحافظ على أسس النظام الجمهوري، ولن يدخل في منافسة مع الجيش، وتعمد التذكير بمصطفى كمال أتاتورك قائلا “سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه كمال أتاتورك، لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر، في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99 بالمئة من الأتراك”.

بالتأكيد يعلم أردوغان أن حلم إقامة دولة إسلامية، تعيد أمجاد الخلافة العثمانية، لا يمكن أن يتحقق دون اقتصاد قوي يُبنى عليه هذا الحلم، واستخدم أردوغان هذا الهدف للتغطية على مشروعه السياسي، وإن لم يحقق أي نجاح في عملية التمويه هذه، حتى ولو كان نسبيا.

السعي الدؤوب لتحقيق ذلك دفع أردوغان إلى توقيع اتفاق مثير للجدل مع حكومة فايز السراج في ليبيا، وسّع فيها من مساحة المياه الإقليمية لتركيا، وأتاح لها إعادة رسم حدودها البحرية وتوسيع جرفها القاري بشكل يسمح لها بالتنقيب عن مصادر الطاقة في أعماق البحر المتوسط، رغم الإدانات الدولية، ورغم أن أنقرة مهددة أيضا بعقوبات أوروبية بسبب أعمال التنقيب، التي تعتبر غير شرعية، قبالة قبرص حيث تحتل أنقرة القسم الشمالي من الجزيرة.

التدخل التركي في سوريا أملته، هو الآخر، عوامل جيو-سياسية وعقائدية. وهي نفس الدوافع التي أملت تدخلها في ليبيا، مضافة إليها دوافع اقتصادية واضحة، فحقول المحروقات في شرق البحر المتوسط تثير اهتمامها، كما هو الحال بالنسبة لدول أخرى في المنطقة، مثل اليونان ومصر وقبرص وإسرائيل.

ورافق التدخلَ العسكري التركي الواضح في الحالتين، الليبية والسورية، تدخل آخر ناعم، في القارة الأفريقية. حيث شهد عام 2019 ارتفاعا في التبادل التجاري لتركيا مع دول شمال أفريقيا بنسبة 10 بالمئة، وارتفع أيضا مع باقي دول القارة بنسبة 12 بالمئة، وأعربت وزيرة التجارة التركية عن عزم أنقرة العمل على تقوية علاقاتها مع أفريقيا خلال العام الجاري.

وتأتي القمة التركية – الأفريقية التي ستعقد في أبريل المقبل، بمشاركة رؤساء الدول من 42 دولة، إضافة إلى حوالي 3 آلاف رجل أعمال،
خطوة جادة في هذا المجال، وذلك إضافة إلى منتدى للاقتصاد والأعمال تركي – أفريقي، يعقد في أكتوبر القادم، وتنظمه وزارة التجارة التركية، مرة كل سنتين.

الجميع اليوم يراقب خطوات أردوغان، ابتداء بالإتحاد الأوروبي، وانتهاء بروسيا والولايات المتحدة، ومرورا بدول المنطقة. ولم يعد سهلا على الذئب التركي إخفاء نواياه،
التي يتداخل فيها البعد الاقتصادي مع البعد العقائدي، في مشروع هدفه النهائي إحياء الخلافة العثمانية وتطبيق حكم إسلاموي.

لم ينس رجب طيب أردوغان تجربة السجن، ولم ينس معها أبياتا من الشعر كانت سببا في ذلك، وسيبقى الإسلام السياسي، ومعه تنظيم الإخوان المسلمين، جيشا مقدسا يقوده أردوغان في الخفاء لإحياء حلم الخلافة.