خير الله خير الله يكتب:
الأردن... ومزايدات الاخوان
في خطابه امام البرلمان الاوروبي قبل ايّام قليلة، ركّز الملك عبدالله الثاني مجدّدا على أهمية الاستقرار في المنطقة وعلى انّه لن يكون هناك اي استقرار في الشرق الاوسط من دون العودة الى خيار الدولتين. يعني ذلك قيام دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية حيث لدى الهاشميين الوصاية على الاماكن المقدّسة الإسلامية والمسيحية وذلك باعتراف من إسرائيل نفسها التي تسعى هذه الايّام الى التراجع عن قسم لا بأس به التزاماتها بموجب اتفاق السلام الذي وقعته مع المملكة الهاشمية قبل ربع قرن.
لا يمكن ان يندرج هذا التراجع الإسرائيلي سوى في ظل الرغبة في الاستمرار في سياسة توسّعية تقوم على استمرار الاستيطان في الضفة الغربية من جهة واتمام عملية الاستيلاء على القدس من جهة أخرى. يتناقض هذا التوجه الإسرائيلي مع جوهر السياسة الأردنية القائمة على خيار الدولتين ورفض الاستيلاء على الأرض الفلسطينية بقوّة الاحتلال.
لا يحتاج الأردن الى دروس من احد في وقت يتعرّض فيه الى هجمة إسرائيلية شرسة بسبب تعارض مصالحه مع مصالح حكومة بنيامين نتانياهو التي قرّرت دفن خيار الدولتين على ارض فلسطين. هذا لا يمنع الأردن في المرحلة الراهنة من السعي الى الدفاع عن مصالحه ومصالح شعبه بكلّ الوسائل المتاحة بعيدا عن المزايدات والمزايدين. مثلما ان المملكة الهاشمية تسعى الى ان تكون حاجزا في وجه السياسة الإسرائيلية التوسّعية، لا شيء يمكن ان يحول دون استيراد الغاز الإسرائيلي في حال كان ذلك يساعد اقتصادها، خصوصا ان الاتفاق في شأن الغاز الإسرائيلي وقع في العام 2016 وان مذكرة التفاهم الاولى كانت في العام 2014. هل يتراجع الأردن عن اتفاق وقّعته شركة الكهرباء فيه مع مجموعة شركات أميركية وإسرائيلية تدعى "نوبل" قبل اكثر من ثلاث سنوات من دون ان يكون لديه بديل... او لمجرّد الحصول على رضا الاخوان المسلمين؟ هل يعرف هؤلاء ان انقطاع الغاز المصري في عهد محمّد مرسي وبعده كان يكلّف الأردن خمسة ملايين دينار يوميا، أي ما يزيد على خمسة ملايين دولار؟ هل يعرف الاخوان ان الأردن اضطر الى الاستعانة بالغاز الاسرائيلي بعد اعتماده على الفيويل لفترة طويلة مع ما يعنيه ذلك من أعباء ضخمة على بلد فقير لا موارد لديه ولا يمتلك سوى قليل جدّا من الثروات الطبيعية؟
الأكيد ان الأردن ما كان ليلجأ الى مثل هذا الخيار لو وجد في حينه افضل منه. حاول مع الجزائر من دون نتيجة. حاول مع قطر. كان السعر المطلوب للغاز القطري مرتفعا جدا.
تطورت الامور مع مرور الوقت واقام الأردن معامل وتجهيزات في العقبة بغية استقبال الغاز الإسرائيلي في مواجهة انقطاع الغاز المصري في مرحلة معيّنة طالت اكثر مما يجب. ستكون فاتورة الغاء الاتفاق الموقع مع إسرائيل كارثية، اذ معنى ذلك ان تدفع الجهة الأردنية المعنيّة عقوبة جزائية مقدارها مليار ونصف مليار دولار لتجمع الشركات الاميركية والاسرائيلية. من اين يأتي الجانب الأردني بالمال لدفع مثل هذه العقوبة وذلك في وقت يبدو ان الدول العربية القادرة في المنطقة لديها مشاغلها واهتماماتها؟
هناك الآن وضع جديد على الصعيد الإقليمي. مصر نفسها وقّعت حديثا اتفاقا مع إسرائيل لاستيراد الغاز على ان يجري تسييله في المصافي المصرية وتصديره الى اوروبا. هناك تجاذبات محورها آبار النفط والغاز في البحر المتوسط. لو لم توقع شركة كهرباء الأردن اتفاقا مع إسرائيل فرضته ظروف معيّنة في العام 2014 وفي الأعوام التي سبقته، لكان في الامكان الآن التوصل الى اتفاق افضل. لكن المشكلة تكمن في ان من الصعب، بل من المستحيل، على بلد مثل الأردن توقع تغيّر الظروف في ما يخصّ الغاز. ما لا يمكن تجاهله ان الاخوان المسلمين عملوا في مرحلة معيّنة، أي عندما حكموا مصر، على زرع الفوضى في سيناء وتعمّدوا ممارسة ضغوط على الأردن عن طريق امدادات الغاز. هذا ليس سرّا. ما ليس سرّا ايضا ان الوضع في سيناء بقي مهتزا بعد اسقاط محمّد مرسي. اكثر من ذلك، ان مصر مرّت قبل اكتشافات النفط الأخيرة في مرحلة لم يعد الغاز الذي تنتجه يكفي حاجاتها.
في النهاية، لن يتمكّن الاخوان المسلمون الأردنيون من ابتزاز الأردن بعدما عجزوا في الماضي عن ابتزازه عن طريق اخوان مصر. اذا كانت لديهم حاليا ذرة من الوطنية، يتوجب عليهم الوقوف في وجه كلّ من يمسّ بالمصالح الأردنية بعيدا عن الشعارات التي لا تطعم خبزا.
ما يطعم خبزا هو التعاطي مع لغة الأرقام. هناك اتفاق سلام بين الأردن وإسرائيل في 1994. قبل ذلك، وقعت مصر اتفاق سلام مع إسرائيل في آذار – مارس 1979. لم يذهب الأردن الى اتفاق سلام الّا بعد توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض في أيلول – سبتمبر من العام 1993، أي قبل سنة وشهر من التوصل الى اتفاق وادي عربة. حسنا، الغى الأردن اتفاق الغاز مع اسرائيل، كما يطالب الاخوان المسلمون، ما هي الخطوة التالية التي يمكن الاقدام عليها؟ هل الذهاب الى المجهول يمكن ان يكون أساسا لايّ سياسة من ايّ نوع؟
في منطقة تبدو مقبلة على تغييرات كبيرة، عرف الأردن كيف يحافظ على نفسه. استطاع تجاوز "الربيع العربي" واستطاع تجاوز الاضطرابات الداخلية في العام 2018 وهو يواجه حاليا سياسة إسرائيلية ذات طابع عدواني وذلك للمرّة الاولى منذ توقيع اتفاق السلام في 1994. ليس سرّا ان الحكومة الإسرائيلية تبحث عن عذر لاظهار الأردن في مظهر المتراجع عن تعهداته والتزاماته. في هذا المجال، كان الغاء الأردن للاتفاق في شأن استيراد الغاز الإسرائيلي بمثابة هديّة على طبق من فضّة لبنيامين نتانياهو وحكومته. هل هذا ما يبحث عنه الاخوان المسلمون الذين وفّر لهم الأردن في الماضي الحماية في مرحلة كانوا يتعرضون فيها للملاحقة في مصر وغير مصر؟
بعض المنطق ضروري بين حين وآخر. يفرض هذا المنطق طرح سؤال في غاية البساطة: لماذا صمدت المملكة الأردنية الهاشمية في وجه كلّ العواصف التي ضربت البلدان القريبة منها؟ اين سوريا؟ اين العراق؟ اين لبنان؟ وفي حال كان المطلوب الذهاب الى ابعد، اين اليمن؟ وأين ليبيا؟
اعتاد الأردن على مواجهة التحديات، خصوصا في عهدي الملك حسين والملك عبدالله الثاني. ما يحصل حاليا تتمة لمزايدات ثبت في الماضي ان لا فائدة منها، لا للاردن والاردنيين ولا لفلسطين والفلسطينيين.