فاروق يوسف يكتب:

الصدر الذي فتح الباب لتأكله الذئاب

لن يتمكن مقتدى الصدر من تصديق أن نجمه قد أفل في الحياة السياسية العراقية، وأنه صار صفرا لن يتمكن ما تبقى من أنصاره من إعادته إلى المعادلة الرياضية التي تقوم على أساس أرقام معقدة.

كان الصدر يحرج خصومه بتقلباته غير المتوقعة، فإذا به من خلال انقلابه الأخير يُخرج نفسه من السباق ليتخلى عن كونه رقما صعبا يحيط به الغموض، ليصبح عرضة للتهميش ورمزا للخيانة بالنسبة للمحتجين، وهو ما ستجد فيه الأحزاب الموالية لإيران مناسبة لتأكيد سلامة رأيها به.

لقد صدّق الصدر أن إيران قد تبنته أخيرا، بالرغم من أنه لم يكن عدوها إلا على مستوى الشعارات المجانية. فلو كان عدوها لما جعلته يرفل بجزء كبير من ثروات الدولة العراقية من خلال الوزارات التي هي من حصته. فالصدر كان واحدا من أكبر المساهمين في حفلة الفساد التي شهدها العراق عبر الستة عشر عاما الماضية. غير أنه وبسبب كراهية الآخرين له رسم خرائط نظرية استطاع من خلالها أن يُوهمَ أتباعه بأنه يعادي إيران.

الصدر كان يسعى إلى أن يتم احتضانه إيرانيا بطريقة منفصلة كما لو أنه شخص استثنائي، وهو ما أتاحته له القيادة الإيرانية أخيرا

مقابل الرضا الإيراني كان على الصدر أن يقوم باحتواء الاحتجاجات، وهو ما تعهد به من خلال التشويش على تلك الاحتجاجات بتظاهرات تطالب برحيل القوات الأميركية عن الأراضي العراقية وهو مطلب الأحزاب الموالية لإيران بعد مقتل قاسم سليماني.

أما حين فشل ذلك الرهان فقد جُن جنون الصدر. ذلك لأنه أدرك أن المركب تغرق. كان انفصاله عما جرى من تحولات منذ بداية أكتوبر سببا في عماه الذي قاده إلى اتخاذ قرار لم يكن صائبا.

لقد اعتقد أن في إمكانه احتواء الاحتجاجات، ومن ثم العمل على تفتيت وتشتيت مظاهرها وصولا إلى إنهائها. تلك كانت خطته. غير أن صدمته كانت مدوّية، حين اكتشف أن ما تصوره يسيرا هو أصعب بكثير من إمكانية الوصول إليه، حتى بعد أن غامر علنا بسحب أعوانه من ساحات التظاهر.

لقد خرج المحتجون من نطاق السيطرة المتخيلة، وصارت لديهم مرجعياتهم التي يحرصون على أن يحيطونها بقدر لافت من الغموض.

حينها كان على السيد أن يعترف بأن الاحتجاجات سبقته ولم يعد رهانه قائما فيها، وأن انسحابه منها لن يؤثر عليها في شيء بل العكس هو الصحيح. لقد وهبها ذلك الانسحاب قدرا من الزخم لعب القرار المستقل دورا في تأجيجه بين الشباب.

غير أنه وكما هو متوقع من رجل دين لم يصدق ما يراه فلم يعترف بالواقع.

فبعد أن توهم أن ظفره بالرضا الإيراني سيمكنه من أن يكون سيد الساحة السياسية، فإنه لا يملك الاستعداد لمراجعة سياساته التي أودت به إلى الانفصال النهائي عن الشارع وحبسته في عزلته التي اختارها بمشيئته.

ولكن هل هناك قراءة أخرى للموقف المزري الذي انتهى إليه الصدر؟

لمَ لا يكون ما جرى هو انعكاس لمخطط إيراني لإزاحة الصدر نهائيا من الخارطة السياسية؟

لقد صدّق الصدر أن إيران قد تبنته أخيرا، بالرغم من أنه لم يكن عدوها إلا على مستوى الشعارات المجانية. فلو كان عدوها لما جعلته يرفل بجزء كبير من ثروات الدولة العراقية

تلك فرضية يمكن القبول بها في ظل العلاقة غير السويّة التي تجمع الصدر بقوى البيت الشيعي الذي كان مهددا دائما بالانهيار من الداخل بسبب تركيز الصدر على حضوره الشعبي بين الفئات الأكثر فقرا.

وإذا ما كان الصدر قد دخل إلى لعبة الحكم مستفيدا من امتيازاتها المفتوحة، فإنه نجح بطريقة مخادعة في أن يمثل دور المعارض الذي يلبس كفنه استعدادا للموت.

غير أن لقاءه الأخير بخامنئي وضع حدا لتلك الثنائية. ترى من سعى إلى لقاء الآخر؟

من المؤكد أن الصدر كان يسعى إلى أن يتم احتضانه إيرانيا بطريقة منفصلة كما لو أنه شخص استثنائي، وهو ما أتاحته له القيادة الإيرانية أخيرا.

كان الصدر غبيا حين أولى خامنئي ثقته.

من وجهة نظر الإيرانيين كان ضروريا أن يعود الصدر إلى ساحات التظاهر بوجه مختلف. وهو الوجه النقيض للمعارض، بحيث يبدو كما لو أنه يمثل الأحزاب الموالية لإيران. وكان في ذلك مقتله.

لقد تخلصت إيران من صداع الصدر في الوقت الذي صار شبحه الوطني نسيا منسيا.