وارد بدر السالم يكتب:
جويس وبروست وفوكنر رموز القراءة الصعبة
خبرة القراءة المتمرسة ليست عابرة أو سهلة. بل توازي خبرة الكتابة من ناحيتها النظرية في الأقل. فحسب نظريات القراءة وموجّهاتها الفنية فإنّ ثمة قارئا متمرسا ومحترفا. وهو المؤلف الضمني الذي يحاذي نص المؤلف ويكتشف ما وراءه بالمعنى النقدي. وربما يقتضي الأمر أن يكون مثل ذلك القارئ مؤلفا من نوع متقدم والإشارات النقدية المنهجية تبيح لمثل هذا القارئ أن يكون بمستوى المؤلف. وبالتالي هو مؤلف فاعل في النص المقروء.لأن عملية القراءة والكتابة متضامنة إلى حد كبير بين الكاتب وقارئه. ولولا القارئ فإنه لا يوجد كاتب وقد لا يوجد نص.
قد تسوقنا أمثلة معاكسة إلى صعوبات في تلقي القراءة. حتى المحترف فيها يجد عسرا في تقبله لهذه الرواية أو تلك. بمعنى أن تكون القراءة -قطعا- غير مواتية تماما للتلقي البسيط. وشواهد القراءة الصعبة كثيرة ومملة في الكثير من الأحيان. وهذا لا يعني عدم وجود قارئ. بل المقصود أن هناك نصا غائبا أثناء القراءة مع أصل النص. ومعنا ثلاثي عالمي قد نتفق على صعوبة في قراءاتهم سرديا. فالأيرلندي جيمس جويس بملحمته “يوليسيس” التي تعد واحدة من أكثر السرديات العالمية صعوبة وتعقيدا ومللا في القراءة. والكثير من الأدباء المتخصصين في الفن الروائي كتّابا ونقادا يعانون من فهمها أو التواصل معها. في حين يصفها آخرون بأنها رواية الزمن العجائبية وأنها سِفْر الحكمة. كما أن أيرلندا تحتفل سنويا باستذكار هذه الملحمة الأسطورية وإن فقدت مع الزمن نشوة القراءة عند الكثيرين من مختلف الأجيال في العالم ومع ترجمات عالمية كثيرة ومتعددة.
الأمر ذاته حدث مع روايته المعروفة “صورة الفنان في شبابه” التي اعتذر عن نشرها رئيس تحرير مجلة “دانا” بذريعة أنه لا يستطيع نشر ما لا يفهم. وهذا حكم نقدي صارم قبل أن يكون ذوقيا، مع أن هذه الرواية التي وظف فيها جويس الكثير من سيرته الذاتية كانت تتمحور حول شخصيته وتحولاتها الفكرية والدينية؛ فإنها واجهت عسرا في القراءة لتعقيد شكلها ولغتها وأحداثها وما تركته من ملل في القراءة العامة. وهذا يعيد إلينا ما قاله جويس ذات مرة لصديق له “إذا واجهتكَ صعوبة في قراءة ما أكتبه؛ فذلك يعود إلى المادة التي أستنبط منها المعلومات، فدائما ما تبدو هذه الأفكار بسيطة بالنسبة إلي”، وهنا مركزية أفكار جويس الفنية في استنباط معلوماته الدقيقة في هذه الرواية أو رواية “يوليسيس” أو “سهرة فينيغان” حيث لم ترد قبل مئة عام فكرة المعلومات العامة التي تجتمع في روايات ما قبل الحداثة؛ الموسيقى، الغناء، الأسطورة، الفن، التاريخ، الوعظ، الفلسفة، فالسرد المعلوماتي حديث بالقياس إلى فترة جيمس جويس التأسيسية.
والرواية المعلوماتية، التي تستعين بالمعلومات الثقافية والمعارف العامة، مفهوم نقدي حديث يرى أن النص السردي يمكن له أن يستعين بنصوص جمالية أخرى لتوطيد صلته بجميع الفنون الأدبية والجمالية. فهل سبق جويس عصره بعشرة قرون مثلا في تأسيس هذا المفهوم يوم لم يكن النقد الجمالي فاعلا كثيرا وغير مهتم بالمصطلحات والمفاهيم النقدية التي تتابع الإبداع الروائي؟
سيبدو هذا التساؤل غير ذكي بما يكفي لو نظرنا إلى مفاهيم النقد الحديثة ونحن نتطور مع القراءة الفنية. إذ بقيت يوليسيس عصيّة على الفهم والتفاعل والتواصل منذ ذلك الزمن حتى اليوم. وتحتاج إلى صبر استثنائي لهضمها. فهل الترجمة هي السبب؟
قد تكون الترجمة أحد الأسباب لاسيما وروايات جويس صعبة الفهم والتعقيد ومتداخلة في بنائها الإطاري إلى حد كبير. وتحتاج إلى معالجات أسلوبية استثنائية للوصول إلى الجملة الأيرلندية وصورتها الحقيقية بل إلى صوتها الداخلي الذي استعمله جويس وهو يؤسس مدينة سردية توازي العاصمة دبلن. غير أن هذا لا يكفي أمام رواية صامدة لعشرة قرون أخذت الكثير من جهود الباحثين والأكاديميين.
وإذا كان جويس مثالا على صعوبة التلقي القرائي فإن مارسيل بروست في “البحث عن الزمن الضائع” لا يقل عنه صعوبة وغموضا وتعقيدا، مع أن غراهام غرين وصفه بأعظم مؤلف في القرن العشرين. وفي سيرة هذه الرواية الكبيرة نجد أنها أطول رواية في العالم إذ بلغت مليونا ونصف المليون كلمة، وأن عدد شخصياتها يناهز الـ2000 شخصية وأنها حدث استثنائي سردي عالمي. ومغايِرة في أسلوبها السردي الذي يتسم بالتعقيد الذي تقصّده بروست، باعتبار أن مثل هذا التعقيد هو الذي يصنع الجمال لا البساطة المتفق عليها ذوقيا ونقديا. وفي هذا التحدي الفني قامت أجزاؤها السبعة على حبكة غير سهلة وهي تناقش الزمن ومفاصله الكونية عبر قرنين من دون إحداث ثغرة في المستقبل كزمن سيأتي، لكن بالبحث عن الزمن المفقود عبر استعادته والتنويع فيه.
وفي كلاسيكيات السرد الأميركي تقف رواية “الصخب والعنف” لوليم فوكنر في مقدمة الروايات الصعبة قراءة وتعقيدا أسلوبيا مما لا يستطيع القارئ العادي وحتى المتماهي مع القراءة من استيعاب صدمات هذا الأثر الجمالي، فهي عصية على الفهم وغير تقليدية في سلوكها الروائي المتشابك وفي لغتها وشخصياتها وتعدد مستويات الوعي فيها، وهو ما أشار إليه الكثير من النقاد. لكن القارئ الضمني؛ وهو المحايث للنص؛ والمؤلف الضمني الآخر؛ عندما يجد صعوبات في قراءة مثل هذه السرديات الكبرى، سيجد نفسه ضائعا في أدغال السطور والصفحات والأحداث والمعلومات والتشكيلات الفنية.. فأين يكمن الخلل؟
هل هو في استيعاب القارئ؟ أم في الترجمة؟ أم في الكتابة أصلا؟