وارد بدر السالم يكتب:
الجسد الشبابي العراقي المنتفض حقيقة ثقافية
تتوسّع أبحاث ودراسات ما بعد الحداثة الاجتماعية إلى توطين فكرة الجسد بوصفه أحد مكوّنات الذات الشخصية ومفتاح الدخول إليها. فالجسد حامل الثقافات الشعبية المختلفة بتاريخيتها المتعددة، وبالتالي هو مصدر من مصادر القوى الذاتية التي تتمكّن من التعبير عن زمنها وفضائها كعنصر من عناصر التحليل الثقافي والسياسي والاجتماعي.
انشغلت الأدبيات السردية والشعرية في موضوعة الجسد وما تزال على أنه وسيط فاعل في مضامين تلك الأدبيات ومعالجاته الثقافية والاجتماعية والسياسية في تورية ضامنة لأن يمثّل ثقافة شعبية واسعة كونه يحمل جينات ثقافية مكتسبة يمكّننا من القول إن دراسات / ما بعد الجسد / قادرة على التحليل الموضوعي لهذا العنصر في حركيته المستمرة في الحياة والثقافة والآداب التي استعانت به في كثير من سردياتها وشعرياتها وفنونها.
على أنّ مثل هذا الجسد الثقافي الشخصي هو الجسد الأكثر صخبا وحضورا عندما ينطلق في الانتفاضات والثورات والمواجهات الحاسمة بينه وبين الجسد السياسي للسلطة، ويتحرر من لوازمه القارّة وهي اجتماعية / نفسية / سياسية / في الأغلب الأعمّ. فالجسد الثقافي هو الجسد الحضاري السابق على النمط اللفظي بعلاماته وإشاراته الكثيرة. فإن كان الجسد بلا صوت حقيقي فإن صوته يتجلّى بأن يتضامن مع الجسد الاجتماعي بمواجهة الجسد السياسي الذي تمثّله الدولة بكل كياناتها ومسمياتها، بما يشكّل جهازا شعبيا ثقافيا واحدا له القدرة على المطاولة والصبر والتحدّي.
الجسد المنتفض
في انتفاضة تشرين الشبابية يمكن أن نتلامس مع الجسد الاجتماعي العراقي الفاعل على نحو واضح، ونهيّئ إمكانياته الثقافية في صبره وصموده لنحو أكثر من أربعة أشهر بالرغم مما يُحاك ضده من مؤامرات ميليشياوية داخلية، فالجسد التشريني الشبابي ارتهن إلى ثوريته باعتباره جزءا من الجسد الاجتماعي العام، وثوريته تعني سلميته حتى الآن بمقابل آلة سلطة كشفت عن جسد بشع يراهن على نهايات خيالية.
ما سلف يعني تحرير نوع ثقافي كامن كانت السلطة تستغله لغايات طائفية ومرحلية، متناسية أن هذا الجسد المسجون سيتحرر في نهاية الأمر وتتوسع حاضناته الثقافية، ليس أقلّها الشروع بالثورة وهو مشبّع بتاريخيته وتراثه الشعبي كهوية اجتماعية وإنسانية لا يمكن طمسها إلى النهاية.
الجسد الثقافي هو الجسد الذي يستطيع أن ينتفض في لحظة تاريخية غير محسوبة، ويغيّر مناخ السلطة بجسدها السياسي، وإذا كانت الدولة تتحكّم بهذا الجسد في القسوة والإكراه والإجبار وفرض الشعائر والطقوس الدينية، فإن وعي الجسد هو حقيقة ثقافية أغفلوها ووضعوا القناع عليها. فلم يعُد الجسد أكسسواراتٍ وأزياء وموضات شبابية، فهو بالنتيجة (عقل) اجتماعي.
ومن المؤكد علماء الاجتماع والنفس ينظرون إليه من باب ثقافي اجتماعي على أنه قادر على أن يتوهج في ظرف مناسب ويتحرك بوصفه عنصرا حركيا وإيمائيا وإشاراتيا يغيّر من معادلة الرضوخ والاستكانة السلبية ليكون فاعلا إيجابيا في الثورة والانتفاضة، على أساس كونه عقلا مدبرا يتحكم بأنساقه الإنسانية ويوجهها إلى ثقافة السلام.
الأنا والآخر
ثقافة الجسد العراقي المقاوِم في ثورته الشبابية تجلّت في نوافذ إنسانية وجمالية كثيرة. عكست صورة التضامن الأخلاقي والاجتماعي والنفسي بين شرائح المجتمع وطوائفه ودياناته المتعددة، بينما عكست صورة (الآخر) جسدا سياسيا مشبوها غير حافل بالمنجز الثوري كثيرا، لكنه بدأ يتحسب له؛ بمرور الزمن؛ لاسيما وأن عدد الشهداء ناف على الستمئة شهيد، مما يعني أن صوت الجسد الشبابي أوصل رسالة صريحة إلى الجسد الآخر. أوصل نوعا ثقافيا غير مألوف تماما في علاقة الأنا بالآخر. والآخر يمثله جسد شرطي. وهو جسد ساكن. مقنن قبل الحراك الشعبي. وحقيقته الثقافية مغيّبة. لكنه مع خطورة الثورة وتصاعد بياناتها برزت ثقافة السلطة فيه. تلك الثقافة التي دجّنته طويلا ليكون مصدّا مباشرا للجسد الاجتماعي الذي خرج من نفقه الأسود. ويكون عائقا وقاتلا خارجا من أنساقه الإنسانية إلى أنساق السلطة الدموية وثقافتها الحمراء.
ما بعد الجسد
جسد الشهيد الذي طاف في ساحة التحرير؛ كأنه مشهد سينمائي مؤثر والذي تحمله الجموع المكتظة وبهتافات مدوية كان أحد الفواعل الثقافية التي جسّدت إمكانية العبور إلى الفاصلة الثانية من الشهادة. العبور إلى ما بعد الجسد في حداثة انتفاضته المرسومة بدقة بالرغم من عفويتها. ساعد ذلك العبور الرمزي الفضاء الخارجي المحيط بجسد الشهيد، وهو ساحة الحرية بنصبها الفني الخالد الذي جرت وتجري تحته فعاليات الثورة. كما جرت تحته مراسيم التشييع الكثيرة لأجساد فتية صغار والتي عكست ثقافة السلطة بجسدها الدموي. ومثل هؤلاء الفتية المهمّشين وجدوا أن الغطاء الحكومي كان كاذبا وأنه مجرى فساد لا أكثر من هذا.
أزياء وموضات الجسد العراقي في هذا الانتفاضة عكست ثقافة اجتماعية عامة بين النساء والرجال. كان مركزيتها العلم العراقي بألوانه الثلاثة كزي جديد غطّى على الزيّ اليومي للجميع. وهو إشارة جمالية إلى الانتماء الوطني بعيدا عن أهواء الأحزاب وشعاراتها وأعلامها وأزيائها المشبوهة. ليرتقي الجسد الشبابي إلى ما يوصف بالجسد المقدّس وهو يحمل تاريخاً وطنياً لا غبار عليه. ويكون الجسد المقاوِم بعلامة فارقة تعني الوطنية لا الحزبية ولا الطائفية الضيّقة.
ومثل هذه الثقافة الوطنية الجديدة والتي أفرزها الحراك الثقافي الشعبي أشارت إلى جسد السلطة بوضوح من أن الوطنية هي ما يجب أن تكون فنارا ومنارا للجميع، وأن الجسد الاجتماعي المتحرك بثقافته الذاتية هو ما يتوجّب تفعيله كل يوم مع الزيّ الوطني الذي اتخذ أشكالا متعددة غير العلم العراقي بشكله المباشر. كالوشم على الأذرع للشباب والشابات ووجوه الصبيان والأطفال بحفر العلم العراقي عليها. ورسم الصور المعبّرة بشعارات الانتفاضة الوطنية التي تدعو إلى إزالة سلطة العمامة وإيجاد الدولة المدنية المفقودة. وانتشار القمصان البيض بخارطة العراق وبعض الشعارات الثورية التي تنادي بالحرية والسلام.