وارد بدر السالم يكتب:
نساء بين جحيم المشاهير ونعيمهم
لا يخلو نص أدبي من دون رائحة المرأة ووجودها ودورها الواقعي أو التخييلي. وهذه حقيقة ليست من حصيلة قراءات متواصلة وتجارب في الكتابة. بل هي استخلاص واقعي لأهمية وجود المرأة كمضمون أدبي ذي زوايا نظر متعددة ومختلفة وربما متقاطعة.
وشهدت الأدبيات السردية والشعرية والمسرحية والسينمائية والفنية والجمالية منذ بدء الكتابة ونشأة الفنون كلها حضور المرأة البارز، تاريخيا، في أدوارها النصية والفنية الكثيرة، نظرا لما تمثله من قطب آخر يوازي الرجل في أهميته الحياتية والواقعية. فالحياة كما هو مفهوم عبارة عن ثنائيات متنافذة في ما بينها تشكل وحدة عضوية تامة لها دورها المستقل في الحياة.
لذلك فوجود المرأة في الأدبيات محكوم بهذه الثنائية -الرجل والمرأة- ولا تخلو الروايات والأشعار والمسرحيات والأفلام واللوحات والملاحم الأسطورية من وجود المرأة في المركز أو الهامش، لأنها تمثل النسق الأكبر في الحياة والضلع الفني في الأعمال الإبداعية.
ولا يخلو الأرشيف الأدبي والإنساني والجمالي من آراء وأفكار وفلسفات متقاطعة عن المرأة ساهم فيه أدباء وفنانون وفلاسفة وباحثون واجتماعيون وأكاديميون، لم يستطيعوا التخلص بالإجمال من شخصنة علاقاتهم بالمرأة وفرزها فكريا وأدبيا، وبالتالي كانت روافد الآراء كثيرة تتشابه ولا تتشابه في معظم الأحيان. وربما بعضها غير موضوعي على أن يكون البعض الآخر ممكنا ومعقولا في تشخيص العلاقة المحتملة مع المرأة كصانع للحياة ومواز للرجل تماما.
الآراء تمثل اشتباكات نوعية في فهم المرأة بين الفلاسفة والمشاهير والسرديين والسينمائيين والشعراء والفنانين. فمن لوحة جورنيكا الغامضة ذات التأويلات في إسقاطاتها المتعددة التي شغلت النقاد عقودا من الزمن ولا تزال، إلى نابليون الذي خلُص إلى أن وراء كل رجل عظيم امرأة -وهو الشعار الذي ترفعه النساء في المناسبات المختلفة- إلى نزار قباني الذي كرّس كل قصائده للمرأة والحب والجمال؛ حتى الجدل الفوضوي في آراء نيتشة وسقراط عندما وضعا المرأة كفارزة بين النعيم والجحيم، أو أنها مصدر الخير والشر في وجهتي نظر مختلفتين تماما. بينما يرى أبقراط بإطلاق تام أنّ المرأة هي المرض. ومع أن بلزاك وازن بنظرته المعتدلة الراقية للمرأة عندما وصفها بأنها مخلوق بين الملائكة والبشر وأنها أقرب الكائنات إلى الكمال؛ فإن شوبنهاور رأى فيها الطفلة الباقية في كل مشوار حياتها. والكثير من المشاهير الأدبيين والسياسيين والعلماء اختزلوا المرأة بمفردة واحدة فقط، على أنها “الآلة” و“الرغبة” و“الجاذبية” و“العاطفة” و“الفضيلة” و“القانون” و“الجنون”.
وفي تعددية هذه الآراء واختصاراتها الرومانسية تتعاقب المرأة في النصوص مع هذه التعريفات الخاطفة؛ ففي الشعر هي الحلقة الرومانسية والعاطفة المشبوبة التي تلهم الرجل وتستحوذ على مشاعره وتفيض في خياله لغة ورؤى جاذبة، لذا تأتي القصيدة مشحونة بعطر النساء الذاهبات إلى الخيال أو العائدات منه، وفي الرواية تتوسع شخصيتها كثيرا حتى تنكشف عاشقة أو مثالية أو متمردة أو مجنونة أو مجرمة أو خائنة أو جاسوسة أو منتقمة، فستقطب القراءة وتخضع للتفسيرات المتلاحقة، وتذهب الآراء الفلسفية إلى اليمين والشمال كما في “إيما” التي خلق منها فلوبير عقدة نفسية في عواطفها المشتتة. وسنرى في ثلاثية نجيب محفوظ “أمينة” المرأة المصرية الخانعة التي هيمن عليها الذكر كليا. بينما نجد جزءا وافرا من السيرة الذاتية لمعظم سرديات التشيلية إيزابيل الليندي، منعكسة على عدد من نساء النصوص.
ومع أن النص ليس هو الواقع تماما والواقع ليس هو النص، لكن ما بينهما نساء كثيرات؛ غامضات وعاشقات وخبيرات حب وجنس، صالحات وطالحات وناجحات وفاشلات، صغيرات وكبيرات ومراهقات وفاتنات وقبيحات، يزدن من خبرة النص ويلهمنه الكثير من الجمال والتأويل. وسنرى باختصار بعض الأفكار المتناوبة التي ترى القطبين السالب والموجب في المرأة؛ فهي ليست “مخلوقة ساعة”، بوصف دانتي، إنما هي بحسب غوته الإناء الوحيد الباقي لنا لنفرغ فيه مثالياتنا. وهذه المثاليات هي التي تشفُّ في الكتابة وتتوضح الصورة ومهيمناتها الأساسية في كيفية التفكير بالمرأة. بينما تأطير دانتي غير موضوعي بالنظر إلى هذا الكائن السماوي كما يصفه الكثيرون ممن عرفوا أن للمرأة حضورا قويا في الحياة والنصوص. لذلك فإن الأنثى هي كاهنة القضاء والقدر (بيكنسفيلد) وتاج الخليقة (هيردر) وأبهج شيء في الحياة (كونفوشيوس) والمرأة الصالحة خير للرجل من عينيه ويديه (مسلمة بن عبدالله) وهي آخر شيء تصل إليه الحضارة (جورج مريديت).
نقرأ في جو المرأة العام والخاص الروايات والأشعار ونرى اللوحات ونشاهد الأفلام ونستمع إلى الموسيقى. ثم نقرأ أفكار الكبار من الأعلام بتقييم المرأة، فتصدمنا الكثير من الآراء لنرى في السير الذاتية لاحقا امرأة واحدة فقط؛ حبيبة خائنة كانت أما وزوجة ترتكب الحماقات؛ هي التي غيّرت مفهوم الرجل عنها في شخصنة ذاتية وترسيخها كمقولة متعسفة عن هذا الكائن المختَلَف عليه. كما عند توما الأكويني لما يرى في المرأة إنسانا ناقص التكوين وكائنا عرضيا في الحياة.
غير أن الروائي الفرنسي هنري دي مونترلان؛ المعروف بكرهه وعدائه للنساء في حياته وكتاباته يكتب عن المرأة بأنها هي الاشمئزاز. وهذا الرأي ناجم عن شذوذه المعروف ومن ثم فقدان عينه إثر ضربة شمس أدت إلى انتحاره.
وحينما نتصفح كتاب المرأة الضخم في أفكار المشاهير والأعلام العالميين نجد العديد من الأفكار تتصالح مع المرأة وترى فيها الجزء المتمم للرجل، ولعل أبلغ قول جاء من البريطاني روديارد كبلنغ عندما قال إن المرأة وحدها هي التي علَّمَتْني ما هي المرأة.