وارد بدر السالم يكتب:
العراق محرقة الأدباء والمثقفين
باختطاف الباحث والناشر العراقي مازن لطيف ستكون موضوعة الاختطاف من قبل جهات مجهولة قد بلغت ذروة العنف مع استمرار انتفاضة الشباب العراقيين التي دخلت شهرها الخامس. وخطفُ المثقفين والناشطين العراقيين ظاهرة مستشرية في الشارع العراقي راح ضحيتها عدد كبير من الأدباء والإعلاميين والناشطين والأكاديميين في ظل صمت مريب.
إذا كان مفهوم السلطة بيّناً وواضحاً حتى في تلاوينها السياسية ومتغيّراتها الطبيعية أو القسرية. فإنّ مفهوم المثقف ملتبس بعض الشيء. وسيبدو غير واضح بما يكفي لتشخيص هذا الأنموذج النوعي. ولعل التعريفات المتعددة التي قالها مفكرون وأدباء ورجال دين متنورون تؤكد مثل هذا الالتباس. وربما أشهرها تعريف أنطونيو غرامشي للمثقف العضوي بوصفه أن وظيفة هذا المثقف لا يقوم بها كل الناس.
وبين المثقف الأصيل والتقليدي يرى علي شريعتي أن الأول هو الذي ينصهر في المجتمع ويعيش تجربته وهمومه وهو المعارض الدائم. وثمة من يرى أنّ المثقف هو المنتج الفكري والاجتماعي الذي يزعج السلطة بطروحاته وآرائه. وهو الناقد للدولة وأساليبها السياسية. ويرى إدوارد سعيد أن المثقف ليس نمطياً بل هو الموهوب في إطاره الجماعي والذي يطرح الأسئلة الصعبة ويأمل بأن الحلول السياسية والاجتماعية يجب أن تكون متكاملة.
هذه التعريفات التي تقبل الإضافات والاجتهادات وضعت المثقف عموماً في دائرة شخصية تُسلّط الأضواء عليها بشكل مباشر؛ مما يعني أن وجوده في جو سياسي معين يُعدّ خطراً وغير مرغوب فيه، وبالتالي فإن خطوط الرصد تتقاطع عليه دائماً، لا سيما في الأنظمة الدكتاتورية والثيوقراطية التي أنتجتها ما سميت بثورات الربيع العربي.
معاداة الثقافة
العراق الحالي أنموذج سيء لعلاقته بالثقافة والمثقفين. فهو يتحسب للثقافة والمثقف ويرى فيه (عدوّاً) جاهزاً في كل وقت. لذلك يسعى لمطاردة الأدباء والإعلاميين والناشطين والأكاديميين والناشرين والباحثين. وهذا ليس بالسر الخافي على أحد ، بقدر ما هو حقيقة مخيفة تواجه هذه النخبة بالقتل أو الخطف أو التسقيط أو السجن أو التغييب أو التعذيب.
صار واضحاً أن مثل هذه الحملات اشتدت بشكل مسعور مع بدء انتفاضة الشباب العراقي، تقودها ميليشيات مشكوك بولائها الوطني، وقد خرجت عن الأطر الديموقراطية والدستورية، فأوجدت لها أكثر من طريقة نافذة لوأد أصوات المثقفين العراقيين الذين ساهموا بشجاعة لرفد الانتفاضة من إحساس وطني فعّال في تنمية زخمها، كما يجري في العالم كله أن تكون الثورات المناهضة للسلطة الدكتاتورية بقيادات ثقافية تقوم بالتعبئة العامة وتثوير حس الانتماء الوطني بعيداً عن الطائفة والمذهب والتحزبات السياسية الفاشلة، حتى من دون النظر إلى حجم السلطة وإمكانياتها العسكرية والبشرية.
ميليشيات السلطة وضعت المثقف في دائرة الاتهام اليومي وهي تقوم باختطاف الشعراء والروائيين والصحافيين
الخروج على الظلم مشروع وقائم بين الشعوب وليس بدعة ابتدعها العراقيون وهم يناضلون من أربعة أشهر لتقييد حركة السياسة والحزبية الضيقة، وإطلاق مشروع البحث عن الوطن المفقود. وهو ما داهم السلطة وجعلها تراجع الكثير من حساباتها.
في مثل هذه الأجواء الدخانية الملبدة، وضعت ميليشيات السلطة المثقف في دائرة الاتهام اليومي. فقُتل شعراء وروائيون وصحافيون وناشطون. وأختُطف آخرون مثلهم خاصة مع هذه الانتفاضة الجبارة. وما تزال هذه النكبات تتوالى يومياً وتتسارع لاصطياد المثقف العضوي والأصيل والمنتج والمعارض والرافض لفكرة الاستحواذ على السلطة من قبل قبيلة طائفية. وتطارد الفكر العلماني المدني والمجتهد الحر وأصحاب الوعي الخلاق والإرادة الوطنية بطريقة همجية أضعفت الدولة كثيراً فسارت الأمور على غير ما يجب أن تكون عليه.
تغييب مازن لطيف
آخر المختطفين هو الباحث والإعلامي والناشر مازن لطيف الذي هوجم أمام بيته وتلقفه مسلّحون غير معروفين منذ أكثر من أسبوعين من دون أن يحدد أحدٌ مصيره حتى الآن.
ولطيف الذي يشغل منصب رئيس قسم النشر والتأليف في شبكة الإعلام العراقي، هو صاحب دار نشر ميزوبوتاميا. وعضو جمعية الناشرين والكُتبيين في العراق، وعضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، وعضو مؤسس في ملتقى الخميس الإبداعي، ومدير تحرير موقع “نبراس الذاكرة”، والعامل في عدد من الصحف والمجلات العراقية. كما أصدر عدداً من الكتب البحثية المهمة أبرزها “علي الوردي والمشروع العراقي” و”المثقف التابع” و”يهود العراق.. تاريخ وعبر” و” مثقفون عراقيون.. حوارات نخبوية” و”العراق حوار البدائل” وغيرها من التآليف الثقافية والصحافية.
وهذه الكتب البحثية تشفُّ عن وعي صاحبها في استدراك الواقع العراقي الجديد.
اختطاف هذا الكادر المثقف من دون مسوّغات قانونية وأخلاقية يضعنا أمام أمر واقعي ملتبس كثيراً. فالثقافة والسلطة عنوان يتجدد دائماً في الظروف السياسية المختلفة، حتى بوجود نظام ديمقراطي يُعتد به، وهما ضدّان لا يلتقيان منذ أن تمظهرت السياسة العربية في حلّتها الجديدة ما بعد ثورات الربيع العربي.
ونظن كثيراً أن العراق هو التجربة الأكثر خطأ في ممارسة الديمقراطية مع دكتاتورية الكهنة. لاسيما ما كشفه الحراك الشعبي الشبابي منذ مطلع أكتوبر الماضي.
شجاعة المثقف
لا شك أنه ومنذ اندلاع التظاهرات الشبابية حتى الآن لم تتوقف موجات الترهيب والتخويف والتخوين والقتل العشوائي. فقد فقدنا العشرات والمئات من الأصوات المثقفة ومن النخب والعلماء والمفكرين وأصحاب الفكر الحر في مثل هذه الحملات المجنونة ، مما يستدعي في كل مرة موجة عارمة من الغضب في الشارع الثقافي وإثارة العديد من الأسئلة في ضرورة حماية النوع الثقافي المتمثل بالشخصيات الراسخة والرافضة للنظام السياسي.
الفعل الإجرامي الذي تعرض له مازن لطيف لم يثنِ المثقفين من الوقوف الرمزي والاعتباري في ساحة كهرمانة احتجاجاً صريحاً على هذه الأفعال المشينة بحق الثقافة والمثقفين العراقيين. وهي ذات الوقفات المتكررة التي أدانت السلطة برموزها السياسية وأحزابها المسلحة التي استولت على مقاليد السلطة بشكل واضح.
لكن كما يبدو أن المثقف والأديب والمتنور وصاحب الرأي المضاد هو الحلقة الأضعف في هذا الوسط الغارق في الفساد والمعبأ بالأسلحة الكاتمة وغير الكاتمة. ويبدو أن الثقافة العراقية تواجه مخاضاً عسيراً أدخلها في أزمة كبيرة.