فاروق يوسف يكتب:
دولة من غير شعب. شعب من غير دولة
ليست الأزمة العراقية في طريقها إلى الحل. إنها في حالة انسداد كلي. فهي ليست قضية محلية طرفاها شعب غاضب وأحزاب مغتصبة للسلطة فحسب، بل هي أيضا قضية تتشابك وتتقاطع فيها مصالح دولتين، الواحدة أسوأ من الأخرى بالنسبة إلى العراقيين، هما الولايات المتحدة وإيران.
ما من أحد يحاور أحدا في العراق. فالسلطة التي تقيم في المنطقة الخضراء تديرها أحزاب مغلقة على نفسها وهي غير مستعدة لتفهم مطالب المحتجين في جانب الرصافة أو التعامل معها إيجابيا. لدى تلك الأحزاب حكومتها ومجلس نوابها وجيشها وأجهزتها الأمنية وسفاراتها وهو ما يضفي على وجودها شرعية ليست قابلة للنقض من وجهة نظرها.
المحتجون لا ينتظرون من الأحزاب أن تتخلى عن السلطة. بل إنهم ينظرون بيأس إلى ما يمكن أن تتقدم به تلك الأحزاب من حلول لأزمة قد تؤدي إلى سقوط سلطتها وانقضاء امتيازاتها في أيّ لحظة يتبدل فيها المزاج العالمي.
الطرفان يتصارعان غير أنهما يدركان أن أحدا منهما لن يهزم الآخر.
الأحزاب الموالية لإيران تتهم المحتجين بالتبعية للسفارات. السفارة الأميركية بالتحديد هي المقصودة. قد لا يصدق الكثيرون أن المحتجين يتمنون لو أن السفارة الأميركية التفتت فعلا إليهم. فهم في حاجة إلى مَن يتعاطف معهم عالميا. وهم في حاجة إلى أي نوع من الحماية، بغض النظر عن مصدرها.
عبر أكثر من ثلاثة أشهر من القتل كان المحتجون يواجهون الرصاص بصدور عارية من غير أن يسمعوا أن هناك جهة دولية تتعاطف معهم وتدافع عنهم وتسعى إلى توفير الحماية لهم.
في موازاة حراكهم السلمي كان هناك صراع بين إيران والولايات المتحدة يعبر عن رغبة الطرفين في أن تكون له اليد العليا في البلد. مظهريا يبدو ذلك الصراع كما لو أنه لا علاقة له بالصراع الداخلي. غير أن ذلك ليس صحيحا.
فلو أن الولايات المتحدة تخلت فعليا عن وجودها العسكري في العراق فإن ذلك معناه أنها سلمت البلد نهائيا لإيران. وهو ما كان يمكن أن يحدث لو أن سياسة الرئيس أوباما الكارثية إزاء العراق استمرت بعد مغادرته.
غير أن عيب السياسة الأميركية إزاء العراق يمكن تلخيصه بضبابية الموقف. فالولايات المتحدة التي تدرك جيدا أن مصالحها في العراق وفي المنطقة هي عرضة للتهديد بسبب اتساع الدائرة التي تتحرك فيها إيران من خلال ذيولها في المنطقة لم تظهر حتى هذه اللحظة موقفا مشجعا وداعما للحراك الشعبي المناوئ للهيمنة الإيرانية والداعي إلى إنهاء نظام الميليشيات الإيرانية.
ولأن العراق هو المركز في الصراع الإيراني ــ الأميركي فقد دأب الطرفان على القيام باستعراضات، توحي بأنها قد تكون تمهيدا لحرب ضروس سيكون العراق ساحتها.
وليس من المستبعد أن الطرفين إنما يقومان بتلك الاستعراضات رغبة منهما في ممارسة الضغط، وهما لا يضمران نية الحرب في كل الأحوال. وهو ما قد يؤدي إلى إبقاء الوضع في العراق على ما هو عليه إلى زمن غير معلوم. فالطرفان يملكان من الوقت ما لا يملكه الشعب العراقي.
وهنا بالضبط تقع العقدة العراقية المستعصية على الحل. فما لم تحسم الولايات المتحدة موقفها فإن المشهد العراقي سيظل منقسما. دولة من غير شعب وشعب من غير دولة. وهو ما يعني أن الأحزاب ستظل تتمتع بهيمنتها على ثروة العراق التي سيبقى الشعب محروما منها. وهو ما يمكن أن يقود إلى المزيد من الانهيارات الأمنية.
فالتصعيد غير المسبوق الذي قام به المحتجون قبل أيام حين أغلقوا الطرق الرئيسية في المدن العراقية وبالأخص في العاصمة بغداد، يمكن أن يتكرر في أيّ لحظة. وهو رد فعل طبيعي في مواجهة الاستبعاد المتعمد لإمكانية الاتفاق على حل يقيم نوعا من الاعتبار والاحترام للشعب العراقي.
وإذا ما كانت سفارات عدد من الدول في بغداد ومنها سفارة الولايات المتحدة قد أصدرت بيانا نددت فيه بالاستعمال المفرط للقوة في قمع المحتجين فإن ذلك الموقف لا يرقى إلى مستوى التضامن. هو نوع من رفع العتب ليس إلا.
واقعيا فإن الولايات المتحدة التي صارت تغض النظر عن الصواريخ التي تضرب سفارتها لا تزال تنظر بشيء من الريبة إلى الحراك الشعبي العراقي الذي لم تسع إلى اختراقه خشية إفشاله. علاقة غامضة إن تمكنت الولايات المتحدة من التعرف على أسرارها فإنها ستكون قادرة على هزيمة إيران في العراق. في انتظار ذلك سيكون على الشعب العراقي أن يدفع ثمن الغباء البيروقراطي الأميركي.