فاروق يوسف يكتب:

فنان الجمال والقسوة

منذ مشاركته في الدورة الأخيرة لبينالي فينيسيا، بدا واضحا أن سيروان باران قد انتقل إلى معالجة موضوعات ذات بعد إنساني هي الوجه الآخر للحرب، ذلك الوجه الذي يمكن أن يتشكل من مخلفاتها المأسوية. لذلك صارت لوحاته تضجّ بالأصوات التي هي خلاصة الألم في ذروته. فما لا يُرى من الحرب في لحظة وقوعها هو ما يبقى باعتباره أثرا يشير إليها في منطقة مجاورة.

ولقد انتبه باران متأخرا إلى أن استغراقه المُتعوي في مديح الجمال عبر مراحل تطوّر أسلوبه قد جعله يولي ظهره لمأساة بلاده بعد الاحتلال، وهو الخطأ الذي وجد أن عليه أن يتداركه بطريقة ذكية توحي بكثير من التحدي للقسوة. وهذا مفهوم مطلق يبدو ملائما للغة شاء باران أن يخاطب العالم من خلالها. وهو في ذلك إنما يخلص إلى الفن بقدر اشتباكه بالبعد الإنساني الذي تنطوي عليه مأساة بلاده.

ذلك درس تعلمه الرسام العراقي من المعلمين الكبار أمثال الإسباني غويا والألماني أنسليم كيفر اللذين عالجا موضوعات لها علاقة بتداعيات الحرب.

وعلى المستوى نفسه، فإن باران من خلال تجربته الحالية يعد لحظة فارقة في تاريخ الرسم الحديث في العراق. إذ يمكن القول إنه الرسام العراقي الأول الذي جرؤ على الدخول إلى منطقة شائكة ذات أبعاد مباشرة مثل الحرب، لا من خلال عمل دعائي واحد، بل من خلال تخصيص تجربة فنية كاملة استغرق العمل عليها سنوات.

ذلك حدث استثنائي وبالأخص أنه يتم وفق شروط جمالية غاية في الدقة. فالرسام بالرغم من انغماسه في التصدي لموضوع مباشر لم يتخل عن أسلوبه الجمالي الصعب الذي هو خلاصة عمر من الموهبة والحرفة والخيال. وهو ما يجعلنا قادرين على الحديث عن جمال يتألم. وهو ما حرص باران على أن يبقيه حيا من خلال معادلة “الجمال والقسوة”. ليست القسوة في مكان فيما الجمال في مكان آخر. لقد عمد الفنان إلى المزج بينهما في حوار مميت صامت، يمكن من خلاله الشعور بقوة الفن.

والفنان يسعى من خلال الجمال إلى إلحاق الهزيمة بالحرب التي نجحت في أن تهزم الواقع. كما لو أن باران يسعى إلى مخاطبة الأشرار بالقول “بقدر ما أنتم أقوياء في الواقع بقدر ما أنتم ضعيفو الحيلة أمام الخيال”، فباران هنا يدافع عن الإنسان والفن في الوقت نفسه، من خلال لغة تبدو على قدر كبير من الثقة والهدوء والحكمة والاتزان.

إنها لغة الفن الذي يقوى على اختراق العتمة وصولا إلى نقطة ضوء. وهنا يمكن القول إن باران خلق عالما متفائلا داخل الكابوس الأعمى. فرغم المأساة التي هي محور أعماله استطاع الرسام أن يبقي على شيء من الأمل. هو ذلك الشيء العنيد الذي تمثله روح المقاومة. فالجمال هنا يقاوم بقدرته على البقاء حيا من غير صخب.

لقد أنتج سيروان باران الذي ينتمي إلى الجيل الفني الذي عاصر الحروب العراقية كلها أعمالا فنية يمكن أن ترقى إلى مستوى الأعمال الفنية التي لا تُمحى من الذاكرة بسبب ارتباطها بالمنعطفات الحادة من التاريخ البشري.