فاروق يوسف يكتب:
ناصر السومي فنان فلسطيني يحمل زيتونته بشرى للعالم
يستخرج الفن أسئلته من الواقع، لكنه لا يطرحها إلا بعد أن يصل بها إلى حافات الوهم، بما يكسبها نوعا من الإغراء الذي يصحّ أحيانا أن يُسمّى كذباً. ولكنه كذب أبيض غير مضر.
كان ناصر السومي قد انطلق عام 1999 من سؤال يتعلق بتغير الأمكنة وما صاحبه من تشويه لطابع “بيروت” المعماري وهي المدينة التي سبق له أن عاش فيها قبل أن يغادرها إلى مهجره في باريس.
“ما الذي يحدث لو أن جهة ما قامت بنقل صخرة الروشة من مكانها؟”. كانت الواقعة “السؤال” التي خطط الفنان لتصويرها تبدو كما لو أنها جزء من انهيار عالم بصري صار يمتد من الوهم إلى الواقع ليقيم وشائج بينهما بما يجعل كل شيء قابلا للتصديق.
السومي يعرف كيف يحض الآخرين على التفاعل مع ما ينوي القيام به قبل الشروع بالفعل، بحيث يكون ذلك التفاعل هو مادة العمل الفني. وهنا بالضبط يقع مغزى السؤال الصادم والمفاجئ
صنع السومي يومها فيلما من واقعة افتراضية. أليس هذا ما يقوم به الفن أصلا؟ فالحقائق تظل ناقصة طالما البحث عنها مستمر. وهي لا تستثني شيئا من خسائرها.
تعلم السومي كيف يحض الآخرين على التفاعل مع ما ينوي القيام به قبل الشروع بالفعل بحيث يكون ذلك التفاعل هو مادة العمل الفني. وهنا بالضبط يقع مغزى السؤال الصادم والمفاجئ.
علاقته بالفن المفاهيمي قديمة. بل يمكن القول إنه من أوائل الفنانين العرب الذين اهتموا بالفنون المعاصرة وحاولوا فهمها واستيعاب أسباب ظهورها ومن ثم العمل من خلالها لإنتاج أعمال تكتسب جزءا من قيمتها من تفاعل المتلقي معها.
ولكن ماذا عن الصبغة النيلية التي تغطّي معظم أعماله، سواء أكانت رسما أم تجهيزا؟ هي طريقته في الإيحاء بالانتماء. لم يشأ أن يذهب إلى الأرض مباشرة بل تسلل إليها من خلال نبتة النيلة المعروفة بفلسطين. لا يتحمل فن السومي الشعارات الشعبية بالرغم من أن ذلك الفن لا يقع في الجهة المقابلة لها. فهو ليس فنا نخبويا.
المكان في تداعياته
ولد السومي في سيلة الظهر، واحدة من قرى جنين. عام 1977 أنهى دراسة الحفر الطباعي في كلية الفنون الجميلة بدمشق. ثم انتقل إلى بيروت ومنها إلى باريس حيث درس ما بين عامي 1980 و1982 في المدرسة العليا للفنون الجميلة.
أقام معرضه الشخصي الأول في بيروت عام 1979. بعده صار يقيم معارض، يحرص من خلالها على أن يستند المعرض على فكرة، يكون عنوانه بمثابة العتبة التي تمهد للدخول إلى تلك الفكرة.
مارس الأنواع الفنية كلها من رسم ونحت وتجهيز وأداء جسدي وصناعة أفلام فيديو في إطار التزامه بالفن المفاهيمي. إضافة إلى ذلك فقد ولع بتأليف نوع محدد من الكتب. هو ذلك النوع الذي يتعلق بالهوية الوطنية، لكن من غير ضجيج استعراضي.
الرسائل والمذكرات تشير إلى القيمة الفكرية التي تنطوي عليها محاولة الوصف التي غالبا ما تكون فاشلة. وهي تقنية يمكن الغوص عميقا في أبعادها الإنسانية عند السومي
من تلك الزاوية يمكن النظر إلى كتابه “فلسطين وشجرة الزيتون. تاريخ من الشغف” فهو أشبه بتركيب علاقة من مادة جاهزة هي شجرة الزيتون.
السومي في كل ما يفعله إنما يسعى إلى التقاط تفاصيل علاقة الإنسان بالمكان. وهي علاقة وإن اتّسمت بشروط مادية فإنها تنفتح على آفاق روحية تظل مشرعة على مفاجآت يمكن أن تقود إلى مفهوم أكثر سعة للمكان الذي يظل عالقا بالماضي.
ولأن السومي يتحاشى أن تكون أعماله مجالا للذكرى فقد كان حريصا على أن يكون اللامكان هو مساحة لعبه. صحيح أنه يقصد مكانا بعينه غير أنه لا يُظهر ذلك المكان بكل أبعاده ولا يسميه بل عن الواقعة الحدسية التي تختصره وتبقيه حيا.
العلاقة بالمكان هي عنصر ثابت في فن السومي بالرغم من أن الكثير من ملامحها تظل قيد التشكل. ذلك لأن العمل الفني بالنسبة إلى هذا الفنان لا ينتهي.
فنان التحولات المستمرة
من “نوافذ عكا القديمة” معرضه الذي أقامه في القدس إلى “سديم” وهو عنوان معرضه الذي أقامه في بيروت مرورا بمعرضه في عمان الذي حمل عنوان “ماء يافا” حرص ناصر السومي على أن يمد جسورا إلى فلسطين. يمكنه أن يكتفي بذلك الاسم ليكون تعريفا للمسافة التي تفصل بين المكان واللامكان. هناك حيث تقيم رغبته في أن تحتفي الصور برواة حكاياتها الأصليين. كانت فكرة الأيقونة قد أمسكت به، حتى جعلته يحول كل شيء إلى أيقونة. ذلك ما جعله يفكر في المتحف، باعتباره المعادل الموضوعي للحياة التي قد لا تكون موجودة إلا في الفن.
وإذ يلجأ السومي إلى المدوّنة في الكثير من حالاته فإنه يفعل ذلك كما لو أنه يوقّع عمله. من خلال المدونة يبدو الإيقاع متوازنا. فالسومي مؤلف. إنه يكتب كما لو أنه يستحضر المواد العادية التي يعمل على إعادة صياغتها في تجهيزاته. هناك شيء ما مختلف. شيء يكتسب قيمته من تماس روحي بالذكرى. من خلال مدوناته لا يسعى الفنان إلى توضيح ما الذي يحدث بقدر ما يحاول أن يزجّ بنا في الحالة التي يعيشها. وهو بالضبط الفعل الذي يهب الأشياء العادية قوة تأثير، هي ليست من أصلها.
يكتب السومي لا ليضيف بل لكي يحذف شيئا من العاطفة من أجل الحفاظ على الإيقاع. فهو ليس فنان وقائع متسلسلة، بل يعتمد في فنه على الصدمة. فأنت لا ترى الشيء الذي يرغب الفنان في أن تراه بقدر ما تعيش تحولاته.
فلسطين باعتبارها حياة
عام 2014 شارك السومي في معرض جماعي ببيروت حمل عنوان “جسر إلى فلسطين”. عرض يومها عملا بعنوان “أيقونات يافا” كان عبارة عن ثلاثين صندوقا، في كل صندوق قنينة ملئت بمياه من بحر يافا وإلى جانبها وضع الفنان رسالة أو ورقة من دفتر مذكرات موقّعة باسم واحد من أهالي يافا
الذين ولدوا فيها في مرحلة ما قبل عام 1948.
بغض النظر عن التأثير العاطفي الذي ينطوي عليه المشهد فإن السومي يقيم وشيجة بين نوعين من الذاكرة. ذاكرة الكتابة الافتراضية وذاكرة الوجود الحيّ التي يمثّلها الماء الذي يمكن حمله باعتباره الشيء نفسه وليس ذكرى ذلك الشيء. بمعنى أن الماء هو حضور مادي لما هو غائب. لذلك فإنه لا يستدعي التفكير فيه باعتباره نوعا من الذكرى.
أما الرسائل والمذكرات فإنها تشير إلى القيمة الفكرية التي تنطوي عليها محاولة الوصف التي غالبا ما تكون فاشلة. تقنية يمكن الغوص عميقا في أبعادها الإنسانية، لا من خلال المعاني المتاحة بل وأيضا من خلال الصورة وهو الأهم بالنسبة إلى الفنان.
فبدلا من أن يكتب الفنان توضيحا للمفهوم فإنه استعمل مواد جاهزة، ستكون دليلا على مصداقية الفعل الفني. وهنا يختلف الفهم من شخص إلى آخر. ذلك لأن كل شيء صار كما لو أنه يقع في لحظة الهام بصري.
يبتكر السومي حساسية للأشياء الجاهزة التي يستعملها وهو في ذلك ينطلق من وجوده المكرر في المنفى بعيدا عن الشيء الذي تنبعث منه أسباب حياته. إنه يحمل “فلسطينه” معه باعتبارها حياة كاملة وليست مجرد صورة للذكرى. وهو في ذلك يخلق فنا فلسطينيا لا علاقة له بالصور الجاهزة عن المأساة الفلسطينية التي أفرغت من محتواها بسبب سوء الاستعمال.
ناصر السومي هو فنان يبني معادلات وطنيته الصافية على أساس موضوعي. وهو ما خفف من عبء العاطفة ليحل محلها حوار عقلاني مع العالم لا علاقة له بالسياسة.