فاروق يوسف يكتب:

كوميديا الزواحف

حين أحتل الأميركان العراق عام 2003 ودمروا دولته وقع اختيارهم على أسوأ أبنائه ليتم تنصيبهم حكاما عليه.

لم يقع ذلك بالصدفة ولم يكن ذلك خطأ أميركيا.

كانت الولايات المتحدة بعد أن محت النظام الحاكم وحلت الجيش العراقي والأجهزة الأمنية وبسطت سيطرتها على الأرض قادرة على أن تفعل ما تشاء ولن يتمكن أحد من القيام باعاقتها.

فكان الأسوأ هو خيارها الذي اعتقدت أنها من خلاله تستطيع اختصار هدفها للوصول بالعراق إلى ذروة الفوضى الخلاقة.

وذلك ما حدث فعلا.

لقد مر الزمن كما لو أنه لم يمر.

نحن الآن في العام 2020 ولا يزال العراق محكوما من قبل أسوأ أبنائه. بل أن السيء بعد أن تم وضعه على القمة صار قدوة للبعض وهو ما يقودنا إلى مسألة هي الأكثر خطرا على مستقبل الشعوب. تلك التي تتعلق بتطبيع الفساد والنظر إليه باعتباره تراثا شعبيا أصيلا.

حين اختارت السيئين لم تكن الإدارة الأميركية عمياء، لا ترى الواقع الثقافي والحقيقة الاخلاقية في العراق. فالولايات المتحدة نفسها ناهيك عن أوروبا الملحقة بها مليئة بالكفاءات العراقية التي يتميز أصحابها بالنزاهة والعفة والوطنية والرفعة والنبل والمعرفة.

كان المخطط قد استبعد كل ما له علاقة بانقاذ العراق بعد عقود من العنف المجاني الذي انتج حروبا مدمرة وسيلا لا يتوقف من الذكريات الأليمة والحزن والغرق في تفاهة الشعارات.

فكان المطلوب أميركيا أن يمضي العراق قدما في مسيرة العنف. ولن يقوى على القيام بذلك سوى القتلة وأصحاب السوابق والمجرمين والهاربين من العدالة والمحتالين واللصوص والمتآمرين والارهابيين بحيث ارتضت الإدارة الأميركية أن تشرك في حكم العراق متهمين سابقين بتفجير مقر المارينز (1983) والسفارة العراقية ببيروت (1981) وبتنفيذ محاولة لإغتيال أمير الكويت (1985).

كان الهدف يستحق التغاضي عن العدالة.

فالعراق كما كان يُراد له يجب أن يكون بلدا لا يقوى على المشي على قدمين. ما عليه سوى أن يزحف طلبا لمساعدة الآخرين في محاولة للاستمرار في الحياة في حدودها الدنيا. فليس هناك ما يمكن أن يفعله سياسيو الأحزاب الفاسدون سوى أن يقضوا أوقاتهم بعيدا عن ضجيج الشعب بعد أن تم تكريسهم باعتبارهم جزءا من الطبقة العليا التي اكتسبت ثراءها بسبب جهلها وماضيها الأسود.

لقد قلبت الولايات المتحدة المعادلات الاجتماعية وذلك ما يمكن اعتباره الأسوأ من بين نتائج الاحتلال. فطبقة غير متعلمة تحكم يمكنها أن تدمر بلدا بسرعة قياسية. وهو ما حدث في العراق.

لقد نصبت الولايات المتحدة أسوأ أبناء العراق حكاما لا من أجل أن تهين علماءه وخيريه وطنييه وأشرافه ومفكريه وحفظة تاريخه حسب، بل وأيضا من أجل أن تقمع العلم والخير والشرف والفكر والتاريخ.

مشاهد الزحف التي صار شباب عراقيون مغيبو العقل ينفذونها باعتبارها جزءا من الطقس الحسيني هي التجسيد الأمثل لما انتهى إليه العراق.

كان صديقي الشاعر الراحل محمد شمسي قد كتب في ثمانينات القرن الماضي رواية صغيرة بعنوان "كوميديا الزواحف" أعتقد أن عنوانها يصلح لوصف العراق الأميركي الذي صار جزءا من العهدة الإيرانية.

ربما لم يقرأ احد من المحتجين الشباب تلك الرواية غير أنهم صاروا واقعيا على تماس مباشر بنبوءتها. وحين قرروا أن يواجهوا آلة القتل فإنهم كانوا يفكرون بعراقهم الذي يقف على قدميه. سمعت أحد المحتجين وهو يقول بحرقة "نعم. نريد وطنا. ولكن ذلك الوطن لن يكون سوى العراق".

المحتجون هم أبناء الداخل العراقي وهم يدركون أكثر منا حجم المأزق الذي صنعته الولايات المتحدة حين فرضت السيئين حكاما وصنعت منهم طبقة تتحكم بثروات العراق المليارية.

لذلك فإنهم يعرفون أن التغيير الحقيقي انما يعني تنظيف العراق من أوساخه. وهي مسألة وقت ليس إلا.