فاروق يوسف يكتب:

فؤاد شردودي رسام وشاعر يتحدى المعنى بالجمال

غالبا ما يتميز الحديث عن العلاقة بين الرسم والشعر بالكثير من المجانية والإرسال والغموض وعدم الثقة. ذلك يمكن توقعه إذا أتى ذلك الحديث من خارج التجربة التي يحكمها الإيقاع. فالإيقاع حين يغيب عن الجدل يقع ذلك الجدل في منطقة تجريدية، لا شيء يُمسك فيها. أما حين يتعلق الأمر بالشعراء الذين مارسوا الرسم من داخله فإن كل شيء يتسم بالحيوية والدفء والكثافة والعمق والوضوح ربما.

الشاعر الفرنسي هنري ميشو هو المثال الأبرز في ذلك المجال. كان ذلك الشاعر المهم مخترعا في مجال الرسم. فـ”التبقيعية” التي اخترعها ما كان لها أن تظهر لولا الشعر. إنها ابنة الشعر.

المغربي فؤاد شردودي هو ابن الشعر الذي تعرّف على الرسم باعتباره أثرا شعريا. ذلك رسام لا ينسى كونه شاعرا في كل لحظة إلهام بصري. لذلك يمكن وصفه بالشاعر الرسام وليس بالشاعر والرسام.

ربما لا يتذكر شردودي اليوم مَن قاد الآخر إلى الإيقاع ومَن علّم الآخر فن نسيان الواقع، الشاعر أم الرسام؟ إنه سؤال لم يعد له معنى. فهو يرسم لأنه شاعر وهو يكتب الشعر لأنه رسام. وهو عن طريق الرسم والشعر يعيش حياة مترفة يغمرها الإيقاع. إنه ابن اللحظة التي يشتبك فيها نبل الاثنين برفعة الحياة. شيء لا يقع بقصد مسبق. فالفنان لا يسخّر حدثا في خدمة حدث آخر. بمعنى أن الشعر لا يخدم الرسم والعكس صحيح أيضا.

اللغة التي تعلّم شردودي أسرارها هي لغة الألغاز وليست لغة السرد. إنها اللغة التي لا تقدم نفسها باعتبارها وسيلة تعبير. صحيح أن الرسام والشاعر، وهما الشخص نفسه، يتصلان من خلالها بنا غير أنها تشكل في الوقت نفسه واحدا من أعظم أسباب القطيعة مع ثقافتنا. سنكون مستعدين لمواجهة عصف متمرد قادم من جهة مجهولة.

الأثر ما أجمله

بالنسبة إليه صار اللعب بالكلمات واللعب بالأشكال هما الشيء نفسه. ذلك لأنه في الحالين إنما يقوم بإعادة خلق الفكرة وليس التقاط تجلياتها المحتملة. إنه ينظر إلى الأشياء انطلاقا من نقصها. وهو ما سيلقي على الشعر والرسم مسؤولية القيام في البحث عن جماليات ذلك النقص وليس تعويضه كما يُخيّل للبعض. الشاعر والرسام يشيدان عالمهما، لكن في منطقة مجاورة.

شردودي رسام تجريدي غير أنه يصر على إجراء حوار تفاعلي مع مفردات الطبيعة والبيئة. إنه يفكر في الأثر. لقد فاتني أن أحدثه عن صديقي الصيني الذي عرض عليّ قبل ربع قرن أن أعلّمه رسم الوردة مقابل أن يعلمني اللغة الصينية. ذكرتني رسومه بذلك الرجل الذي اشترط عليّ أخيرا أن أعلّمه كيف يصل إلى رسم عطر الوردة. ما يفعل شردودي هو نوع من ذلك القبيل.

ولد شردودي عام 1978 في مدينة سلا. أكمل دراسته الجامعية في كلية الآداب. لم يتعلم الرسم أكاديميا بل استند في ذلك إلى نزعة شخصية قادته في وقت مبكر إلى أن يتعلم لغة الرسم إلى جانب لغة الشعر.


أصدر الكتب الشعرية التالية “السماء تغادر المحطة”، و”أنا غير مسخّر”، و”ماسكا ذيل كوكب”، و”من باب الاحتياط”. في الرسم بدأ عروضه عام 2001 في مدينته سلا. بعدها صار يشارك في لقاءات فنية مغربية وعربية ويقيم معارض شخصية في مدن مغربية مختلفة إلى أن أقام معرضا شخصيا في باريس عام 2016. “ورد أكثر” هو عنوان المعرض الذي أقيم عام 2018 برعاية مؤسسة صندوق الإيداع والتدبير وبيت الشعر في المغرب يمثل منعطفا مهمّا في مسيرة شردودي الذي شارك مع زميليه عبدالله الهيطوط وعزيز أزغاي في توجيه تحية من نوع خاص إلى الشاعر محمود درويش.

شاعر محترف وبالقوة نفسها هو رسام محترف. هما الشخص نفسه الذي يتعلم من تقنياته كيف يذهب إلى المعنى ليخفيه. الكثافة التي تتميز بها قصائده ورسومه تتخطى قصدا مبيّتا بعينه. ذلك رجل تسحره الكلمات والأشكال أكثر مما تجذبه المعاني. هناك الجمال الذي يبعثره المعنى. المعاني جاهزة غير أن الجمال قليل.

“اللوحة مدينة مقفلة ضاعت مفاتيحها في الأثر” يقول. وهو في ذلك إنما يمهّد لعلاقة من خاص لا تقوم على أساس الاستجابة المباشرة. سيكون لدينا دائما وقت فائض لالتقاط المعاني غير أن المتعة الجمالية لها وقت ضيق قد يمر مسرعا من غير أن ننتبه لمروره.


“بعض المعاني تضرب عميقا في البئر، وبعضها لا يصلح كأزرار قميص. المعنى صديق خائن للعاشق، حانوته المفتوح دائما كصيدلية حراسة. هو دائما يُسقط العاشق في خطأ التكرار، ويمسح فمه بمنديل اعتذار خشن. حتى كلمة أحبك تظل تجره من قدمه كدخان سيجارة. قبل أن يسقط كطائرة وسط مدرسة للبنات. لا بد أن تقول أحبك بين الكلمة والأخرى، وربما لسبب غير معلن ترضى بخسارة المعنى حين تعشق. في العشق لا شجر يعرف من أين تأتي الفاكهة”.

في هذه القصيدة التي تضمّنها كتابه “من باب الاحتياط” وهي بعنوان “معنى” يدخل شردودي في تفاصيل علاقته بصنيعه الفني والشعري من جهة العلاقة الملتبسة بالمعاني. وهو في ذلك إنما يضعنا في قلب تجربته الفنية حين يكشف عن طريقته في التفكير في الفن.

ولأن شردودي يرسم كما العصف المفاجئ، ذلك لأنه بسبب تربيته الاحترافية غالبا ما يجد نفسه مطاردا بالأفكار والرؤى والأشكال فإنه لا ينتظر لحظة الإلهام ليرسم أو يكتب الشعر. ذلك لأن الإلهام يرافقه أينما مضى وبالأخص إذا كان في مرسمه.

المواد التي يعمل من خلالها تملك سلطة غير محدودة للإلهام. وهناك أيضا سبب دائم لكتابة الشعر. ذلك ما دفع شردودي إلى الإيمان بحقيقة أن العمل المستمر وبطريقة مخلصة وصادقة هو الذي يستدعي الإلهام.

غير أن المفاجئ في الأمر أن الفنان بالرغم من غزارته في الإنتاج لا يخلق أعمالا متشابهة. صحيح أنه يمكننا التعرف على لوحته غير أن ذلك يجري بسبب تعرّفنا على سلوك الفنان وهو يصنع سطوح لوحاته وليس بسبب الأشكال التي لا تتكرّر إلا نادرا وبعيدا عن السيطرة.

بعد سنوات من الغياب

يبدو شردودي كما لو أنه يحاول قول كل شيء في لوحة واحدة. ذلك الاستنتاج ليس صحيحا. ربما يبدو الأمر كذلك لو اكتفى المرء برؤية لوحة واحدة. غير أن رؤية المزيد من اللوحات لا بد أن تؤدي إلى كسر ذلك الوهم. فالرسام الذي يقبل على رسم كل لوحة جديدة كما لو أنها لوحته الأخيرة يساهم في صناعة ذلك الوهم، غير أنه سرعان ما ينقضه حين يبدأ برسم لوحة جديدة وهكذا تتكرر لعبة يكون الفنان سيدها.

ولأن فن شردودي يقوم أصلا على اختراع أشكال لا أصول لها في الواقع، فإن الاختلاف في النظر إليه إنما يزيد من سعة المساحة التي يتحرك فيها. فهو ليس صنيعة مكان بعينه وإن كان يعلق على صلته بالأثر شيئا من الأمل وهو لا يرتبط بزمن بعينه لأنه محاول للتنقيب بين السطوح المتراكمة بحثا عن زمنه الخاص. وإذ يحرر الفنان فنه من عنصري المكان والزمان يهب عالمه حرية الاستمرار في النمو والتطور.

شردودي هو ابن الألفية الثالثة وفنه كما هو فن أبناء جيله المتمردين يعيد المغرب إلى صدارة المشهد الفني العربي بعد سنوات من الغياب