علي قاسم يكتب:

المذعورون من كورونا بصوت واحد: أنا ومن بعدي العولمة

هناك من يظن أن مواجهة الكوارث تقارب بين الناس وبين المجتمعات، هذه حقيقة، عندما تطال الكارثة جزءا من التجمعات البشرية ويسلم منها جزء آخر، خاصة عندما يلحق الضرر بعدد أقل من عدد الذين لم يمسسهم سوء.

هنا سنجد أن الناجين يتعاطفون مع المنكوبين ويقدمون لهم يد العون. يحدث ذلك حتى بين الجماعات المختلفة عرقيا وثقافيا، بل قد يحدث حتى بين جماعات هي على اقتتال فيما بينها.

الأمر مختلف تماما عندما يهدد الأذى جميع أفراد التجمعات، ولا يستثني أحدا منهم، ويزداد الأمر سوءا عندما يكون مصدر التهديد وباء، عندها يقول الجميع “أنا ومن بعدي الطوفان”.

أصحاب المشاعر الحساسة، الذين يتعاطفون مع النملة تدب على الأرض، بالطبع يرفضون تصديق أن الإنسان يمكن أن يتحول إلى كائن أناني لا يهتم إلا بنجاته ولو كانت على حساب الآخرين. بالتأكيد هم على صواب، هناك قلة قليلة جدا لا يقاس عليها، تحولها النوائب إلى أبطال.

عدا ذلك الأوبئة تخرج أبشع ما في دواخلنا. هذا بين الأفراد، ماذا عن الشعوب والدول، وعن العلاقات فيما بينها، وما هو مصير العولمة بعد انحسار وباء كورونا المستجد الآخذ بالانتشار؟

من المفيد، قبل تقديم إجابة حول هذا السؤال، أن نتحدث عن العولمة؛ رغم أن كلمة “عولمة” تستخدم مئات المرات في حياتنا اليومية، إلا أنها مصطلح غامض إلى حدّ ما، ينظر إليه رجل الشارع، نظرة سلبية، فالعولمة في ذهن هؤلاء، وحش يريد أن يسرق منهم قوتهم ويعرض أبناءهم للبطالة، وينهب ثرواتهم.

ولا ننسى أيضا الصراع بين أنصار الرأسمالية وأنصار الشيوعية، وهو صراع وإن وضعت خاتمته على الأرض نهاية الحرب الباردة، إلا أنه مازال قائم فكريا.

العولمة (Globalisation) ظاهرة اقتصادية، قبل أن تكون فكرية وثقافية، يعود ظهورها إلى القرن الرابع عشر، مع انتشار الشركات متعددة القوميات في مناطق أوروبا الغربيّة، ويعدُّ ظهور الثورة الصناعيّة أكبر تجلٍ للظاهرة.

ولاحقاً، بدأ الأكاديميون بالتأريخ للعولمة في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة، وظهرت عنها هيكليّة عالميّة جديدة في ظل تأثير النظامين الاشتراكي الشيوعي، والرأسمالي الليبرالي، وسيادة الحرب الباردة على مدى 40 عاما؛ انتهت مع انتصار الرأسمالية، ما أدى إلى ظهور نظام عالمي جديد تتحكم به الولايات المتحدة، ساهم ذلك في تعزيز وجود العولمة عن طريق تأسيس مؤسسات ماليّة عالمية، مثل صندوق النقد الدولي.

خلال الثمانينات من القرن العشرين ظهرت تطورات متنوعة في تقنيات الحاسوب، وتكنولوجيا الاتصالات، وتطبيقات الإنترنت، ووسائط التواصل الاجتماعي، أدت إلى تعزيز العولمة ليمتد تأثيرها إلى كافة المجالات؛ وتحديداً المالية، والإعلامية والثقافية والاجتماعية.

إذن، العولمة ظاهرة مبنية على المصالح، عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد والسياسة، وهي مبينة على التأثر والتأثير عندما يتعلق الأمر بالفكر والثقافة.

أكثر ما أثار الجدل مؤخرا هو الموقف من إيطاليا في مواجهة وباء كورونا، وهي من أكثر الدول الأوروبية تأثرا بالوباء، حتى هذه اللحظة. بينما ترددت دول الاتحاد الأوروبي، ودول رأسمالية أخرى خارجه، عن تقديم يد العون للإيطاليين في محنتهم، سارعت روسيا والصين إلى تقديم العون لهم بسخاء.

هذا الموقف أثار تساؤلا عن قيمة العولمة، وسارع الناس، وهم غالبا من المناوئين لظاهرة العولمة ومن بقايا الرومانسيين الاشتراكيين، إلى تقديم استنتاج عاطفي مفاده أن كورونا ستقضي على العولمة.

الدول الغربية تعاملت مع ايطاليا في حدود وأطر قوانين العولمة، وبمفهومها المتفق عليه، أي كونها مجرد مصالح واتفاقيات. وقد سبق للاتحاد الأوروبي أن تدخّل لإنقاذ الاقتصاد الإيطالي من الإفلاس إثر أزمة 2009 المالية.

العالم اليوم مهدد بأزمة مالية قد تفوق الأزمة التي تعرض لها الاقتصاد عام 2009، وهناك إلى جانب جهود الدول التي تبذل على حدة، جهود جماعية يخطط لها لإنقاذ الاقتصاد العالمي، بما في ذلك اقتصاد دول فقيرة.

حتى في بريطانيا التي اختارت الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، لا يتجاسر رئيس وزرائها بوريس جونسون، وهو عرّاب بريكست، على شق الصف وتحدي توجيهات يمليها قادة أوروبا.

اختيار بريطانيا الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي، لا يعني أيضا أنها اختارت الابتعاد عن نظام العولمة. الحرب التجارية المشتعلة بين الولايات المتحدة والصين، لم تكن كافية للتشكيك بهذا النظام رغم قوة كلا الطرفين.

قد تتعرض البنود والاتفاقيات للتعديل والتبديل أحيانا، ولكن العولمة كنظام اقتصادي، باقية ما بقيت البشرية. لا نعلم ما هو عدد ضحايا كورونا عندما ينقشع الوباء، أو يكتشف له العلاج واللقاح، ولكن ما نعلمه هو أن الدول ستلملم جراحها وتحصي خسائرها، وتعمل على التقارب من جديد.

هذا على الصعيد الاقتصادي، أما على الصعيد الثقافي والفكري، فإن الأمر أكثر تعقيدا، إلا أنه في نهاية الأمر خارج عن سيطرة الدول والأفراد.. لماذا؟

العولمة الثقافية أكثر عرضة للانتقاد من العولمة الاقتصادية، وذلك لأن العولمة والهوية الثقافية في تنافر وتصادم مستمرّين، إذ تسعى العولمة إلى خلق وحدة ومنظومة متكاملة، في حين تدافع الهوية عن التنوع والتعدد.

وبينما تهدف العولمة إلى القضاء على الخصوصيات المختلفة، تسعى الهوية إلى الاعتراف بعالم الاختلافات وترفض الذوبان؛ العولمة تبحث عن العام والشامل، بينما الهوية هي انتقال من العام إلى الخاص، ومن الشامل إلى المحدود.

ولا غرابة أن يعتبر بعض المفكرين في العولمة بصيغتها الجديدة نوعا من الاستعمار الجديد. ويشير، جان نيفردين بيترس، في كتابه “العولمة والثقافة” إلى أن العولمة الثقافية تنحصر في دمج الإنسان والتهجين، ويعطي مثالا على ذلك، الممارسات الدينية واللغة والثقافة التي جلبها الاستعمار الإسباني للقارتين الأميركيتين.

حديثا، حذّر مفكرون من أن التنوع الثقافي في العالم يتبدل، ويتحول إلى وباء بسبب ثقافة الاستهلاك الغربية، فالهيمنة الأميركية المؤثرة على العالم، سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى القضاء على التنوع الثقافي. ويشار إلى التأثير العالمي للمنتجات والشركات والثقافة الأميركية باسم الأمركة. ويتمثل هذا التأثير من خلال برامج التلفزيون والسينما الأميركية التي يتم بثها وعرضها في جميع أنحاء العالم.

شركات أميركية كبرى، مثل ماكدونالد وكوكاكولا، لعبت دورا رئيسا في انتشار الثقافة الأميركية حول العالم، وتمت صياغة عبارات مثل “استعمار الكوكا” للإشارة إلى هيمنة المنتجات الأميركية في البلدان الأخرى، التي يراها بعض النقاد خطرا على الهوية الثقافية للشعوب. هذا كله، حدث قبل الثورة الرقمية واختراع الإنترنت، وما نتج عنهما من وسائل بحث ووسائط تواصل اجتماعي، لن تستطيع الحكومات المذعورة من هيمنة الثقافة الأميركية حجبها بعد اليوم.

ما نود الإشارة إليه أن ما اعتاد البعض على تسميته بـ”الغزو الثقافي”، قبل كورونا وبعدها، لن يتبدل. سينسى الناس ما حصل بسرعة كبيرة، خاصة الشباب منهم.

إذا كانت عولمة الاقتصاد خيارا حرّا، إلى حدّ ما، فإن عولمة الثقافة لا خيار لأحد فيها. كيف نتحدث عن رفض العولمة الثقافية في الوقت الذي نتحدث فيه عن مخاوفنا من أن يحل الذكاء الاصطناعي مكاننا.

ليس أمامنا إلا القبول صاغرين بشروط العولمة، خاصة الثقافية منها، وإلى الحالمين بأن يؤدي وباء كورونا إلى وأد العولمة، نقول لهم كفوا عن الحلم، العولمة باقية، سيدافع الشباب عنها بكل قواهم، سواء عن وعي أو دون وعي منهم.