محمد أبوالفضل يكتب:
عندما تتجاهل المواقف السياسية التفسيرات العلمية
يستطيع المتابعون وضع أياديهم بسهولة على العلل الحقيقية من خلال مجموعة من المواقف الدولية التي تؤكد الصراع أو التوافق السياسي بين الولايات المتحدة والصين، أو بين إيطاليا وبعض الدول الأوروبية، على وقع انتشار فايروس كورونا.
يستطيع هؤلاء أيضا تفهّم الصخب والهدوء الذي ترافق مع الأزمة، وكلها مواقف على سبيل المنافسة والعتاب ولم تنحرف ضد الأسباب العلمية للمرض والتشفي في أصحابه واللجوء إلى تبريرات جامدة وغيبية، وإذا وُجدت يتم التراجع عنها بمجرد ثبوت الخطأ في التقديرات.
أظهرت الجائحة أفضل ما في البشر من تصرفات وأثمن ما في حياتهم وهي الصحة، وكشفت أيضا عن أسوأ ما فيهم وهي الأنانية. في الأولى رأينا التلاحم والتعاطف وإنكار الذات، بينما جرى تسخيرها سياسيا في الثانية لخدمة مواقف عقائدية غير واقعية.
لم يتعب الكثيرون في فهم المعاني النبيلة التي يحملها الفريق الأول، والقيم الإنسانية العظيمة التي ينطلق منها، ويكاد يجنّ جنون الناس وهم يَرَوْن حملات ترويج سياسية وسط المِحنة دون أدنى اهتمام بالمصيبة وتوابع زلازلها التي لم تستثن دولة تقريبا.
استغرق البعض وقتا طويلا لتصفية الحسابات السياسية وتصوروا أنها كافية للتعامل مع المِحنة وجلب المنافع منها، وانتهزوا الفرصة لترديد شائعات وعبارات وشعارات جوفاء وهم على ثقة من وجود جيوش جرارة ترددها بلا دراية وتفكير، وتعمل على نشرها كأنها اليقين، حيث اعتبروا المرض هدية من السماء لتركيع بعض القوى والتخلّص ممن يرونهم متغطرسون أو من فصيلة تستهويها السيطرة، وأن اللحظة حانت للانطلاق في ظل الانهماك في اتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة كورونا وروافده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
كنت أعتقد أن “مهاويس” الدعاء على كورونا ليلا في عرض الشارع ظهروا في مدينة الإسكندرية المصرية فقط، حتى فوجئت أنهم كرروا فعلتهم في عدد من الدول العربية، ما يعني أن هناك أمرا جاءهم لعزف هذه السيمفونية بالتزامن أو في توقيتات متقاربة، وثمة جهة تحركهم نحو فعلتهم هذه ولها مآرب سياسية خفية، وجدت الظلام مناسبا للتعبير عنها.
يريد من وقفوا خلفها إثبات قدرتها على الحشد وامتطاء الأمواج العاتية، لكنهم فشلوا، لأن من تصدّوا لهم وأدانوهم كانوا أوسع نطاقا وأشدّ بأسا وتمسكا بالحياة، مع ذلك لم يقتنع من استثمروا في المرض بالفشل الذي أصابهم وواصلوا حفلاتهم السريالية، اعتقادا أن كورونا ينتقي من يصل إليه أو يبتعد عن المسلمين، ويفرّق بين منتمين للإخوان وغيرهم.
لم يغيّر هؤلاء عاداتهم وتقاليدهم وثوابتهم في ليّ أذرع وأعناق الحقائق، وواصلوا قلبها في أرقام المصابين والوفيات حسب هواهم، مع أن الأزمة كشفت لنا الدور الحيوي الذي تلعبه منظمة الصحة العالمية وأهمية وجودها في غالبية دول العالم ومتابعتها عن قرب للتطورات، وتقديم المعلومات بصورة مستمرة، بما لا يدع مجالا لمداراة هنا أو مناورة هناك.
غير أن أصحاب النفوس الضعيفة تجرؤوا على ما تقدمه من بيانات بمساعدة الحكومات المحلية وشككوا فيها، وأثاروا اللغط حولها في بعض البلدان كي يكونوا حاضرين في وليمة الكورونا بالجهل والحماقة والغدر، واعتمدوا على معلومات ليست دقيقة، وإحصائيات تتنبأ بمصير المرض مستقبلا وفقا لمتواليات هندسية، وبثت على أنها حقائق حالية.
بدت الآليات والأدوات والأشخاص تستخدم خطابا واحدا تقريبا. انظر إلى المنابر والأصوات والصور، والمفردات والإشارات والأماكن، تجدها متشابهة في الدول التي تقصدها والشعوب المراد تطويعها، وأنواع الفتن المطلوب ترويجها، ما يعني أن الرؤية العامة كانت محكومة بجملة من المواقف السياسية بعيدة تماما عن النظرة العلمية.
كتبت صحافية سودانية مقالا بعنوان “مصر أم المصائب” مؤخرا، تناقلته وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التابعة للإخوان وتلقفته الميليشيات الإلكترونية، وحاولت أن تثبت من خلاله بشتى الطرق أن الفايروس خرج من مصر رأسا، ومنها يجوب العالم.
دعك من تنحية العلم وما تعرفه الدنيا بأثرها التي تحدثت عن ووهان الصينية كبؤرة أو مركز لانتشار المرض، وتوقف عند المزاعم التي ساقتها لتثبت أن كل المصابين جاؤوا من مصر، ووصلوا إلى كندا وأميركا وإيطاليا وألمانيا والصين طبعا، بالتالي يحق أن يطلق عليه “الفايروس المصري”.
أشارت توجهات الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه تراجع عن وصفه الفايروس بـ”الصيني” في حين تمسكت الصحافية السودانية بفعلتها، وتهكمت على المثل الشعبي المحبب لكثير من المواطنين بأن بلدهم “أم الدنيا”، وبغض النظر عمّا يحمله من اعتزاز وفخر وثقة، فقد أرادت الصحافية أن تنزع عن المصريين أحد أهم شعاراتهم المحببة.
المثير أن المقال أثار فتنة جديدة بين مصر والسودان، وخرج عن سياقه الظاهر من صب غضب صحافية على القاهرة لأسباب مجهولة، إلى انجرار فئة سودانية تفرغ شحنات غضب سياسية مكتومة حيال مصر، وكأن هدف صاحبته إحداث ضجة وتفجير أزمة بين البلدين، في وقت تشهد فيه العلاقات تحسّنا على وقع تعاون أمني واعد يستهدف مكافحة الإرهاب وتقويض دور العناصر المتطرفة.
حصدت الأزمة المفتعلة نشاطا تجاوز الحديث العلمي عن الفايروس ومخاطره وأضراره القريبة والبعيدة ووسائل الوقاية منه، وحصره في أوعية عقائدية تنطوي على أحكام مسبقة، وسعى البعض لتوظيف الجائحة والقفز على أمواجها الإنسانية ووضعها في قوالب سياسية.
شاهدت فيديو لأحدهم يطالب مرضى كورونا بنقل العدوى إلى ضباط وجنود الجيش والشرطة في مصر، وكأن إصابتهم تعني التخلّص منهم وحدهم، وغيرهم من المحصنين في الأرض، فقد بلغ التشفّي حد تغييب العقل وعدم الاعتداد بالمنطق. وما أكثر المواقف التي تثبت التخلّي عنهما مبكرا، لأن وجودهما ضد قيام الجماعات المتشددة بمهامها في التجنيد والحشد والتقتيل.
ولذلك تجد هذه النوعية من الدعوات طربا وتسويقا وإعادة تكرار وإنتاج لها بأشكال متباينة بما يتماشى مع طبيعة كل منطقة. فالمهم أن تستمر الغمامة ولا يرى أحد الحقيقة عارية.
إذا كان كورونا سيؤرخ بأنه تاريخ فاصل أو محطة بين ما قبله وما بعده في العلاقات الدولية والتفاعلات بين الأمم، فإنه أيضا سيؤرخ لدور التنظيمات الإسلامية بما قبله وبعده. فقد كانت خطط قادتها تعتمد على التناقضات والفجوات بين القوى المختلفة، وتتسلل منها وتبث سمومها في مناطق عديدة، مستفيدة من انسحاق البعض وراء تفسيراتها الخيالية.
في المستقبل القريب سوف تتراجع الخلافات الأيديولوجية وتتعاظم التحالفات على أسس علمية تكاملية، ولن يكون هناك مكان تحت الشمس لذوي الأفكار التي تتاجر بعواطف الناس وتدغدغ مشاعرهم، فسلطان العلم سيتصدى لطوفان الجهل، وقوة الحجة ستسود وتهيمن، ولن تصبح هناك فائدة للمواقف والرؤى السياسية التي تعبث بالتفسيرات العلمية.