فاروق يوسف يكتب:
صدمة الخروج إلى الحياة
لن تكون هناك حياة طبيعية إذا ما قررت الحكومات إنهاء حالة الإغلاق التام. لن يتمكن البشر من استعادة عاداتهم القديمة. سيكون لقاء بعضهم بالبعض الآخر جافا ويابسا ومن غير توابل عاطفية. لا مصافحات ولا عناق ولا قبل ولا همس جانبيا ولا أحاديث حميمة ولا ربت على الأكتاف ولا قهقهات.
لا في الشارع ولا في مكاتب العمل ولا في المقاهي ولا في صالات الألعاب الرياضية ولا في المسابح ولا في المسارح ولا في المتاحف سترى الناس مقبلين، بل إن كل واحد منهم سيدير للآخرين ظهره كمَن يعتذر.
“لقد أخطأنا الموت هذه المرة. ماذا عن المرة المقبلة؟”.
سيكون البشر غرباء، بعضهم عن البعض الآخر بقسوة. يتبادلون ابتسامات عن بعد كما لو أنهم يقفون في انتظار قطارات ستقلهم إلى جهات مختلفة. في الوقت الذي يحمل كل واحد منهم شوقا عارما للذهاب إلى جهة لن يصل إليها.
لن يكون ما نفعله هو ما نريده فعلا. سنكون مجبرين على القيام بأداء أدوار، ما كنا في أسوأ الكوابيس نفكر فيها.
سيذكرنا المشهد بزمن الأفلام الصامتة. هناك صراخ يذوب في الهواء يعرف الممثلون أن لا أحد سيسمعه. لا حاجة إلى مترجم. سيكون الضياع عنوانا لكل حركة فائضة عن الضرورة.
ذلك المسرح الذي سنعود إليه لن نكون أسياده كما كنا من قبل. المسافات التي ستفصل بين الكائنات البشرية ستكون مشحونة بالألم والحسرة والعواطف المؤجلة، مثلما ستكون هناك قوة ضغط على كل إنسان من أجل البقاء داخل ذاته محميا بجسده الذي انتصر على المشاعر الروحية.
لا طقوس جنائزية ولا شعائر جماعية للتعبير عن أخوّة البشر.
لقد جربت البشرية نوعا جديدا من الأخوة. التضامن عن بعد. وهو ما أثبت نجاعته في الأوقات العصيبة. لا وقت للبكاء واصطياد القوافي من أجل كتابة المرثيات. العمل والعمل وحده هو ما أنقذ الجنس البشري من الانقراض.
هناك هاوية سحيقة تفصل بين ثقافتين. ثقافة الخرافة وثقافة العمل.
تبدلت الكثير من المفاهيم حين صارت المواجهة حاسمة. انتصرت الأساليب القائمة على الفهم العلمي لظاهرة الوباء على صيغ التحايل المراوغ والخبيث على الحقيقة، حين أطاحت صيغ الشعوذة تلك بمدن وقرى نائية لم تسلط عليها وسائل الإعلام الضوء بسبب انشغالها بمتابعة ما يجري في البلدان ذات البنيات الاقتصادية القوية.
ذلك ربح عن طريق الخسارة هو أشبه بالدرس الذي سيكون مفتتحا لتاريخ جديد. ذلك لأن البشرية ستصنع من المأساة فاصلة بين تاريخين. ما قبل كورونا وما بعدها.
فهل سيحمل العائدون إلى الحياة شيئا من ملامح أهل الكهف؟
ستكون الحكاية الدينية سندا لحكايات الخيال العلمي في محاولة صنع المشهد المتخيل لبشر خلفتهم العاصفة حائرين في حالة تلفت دائم.
لطالما تمنى العاقل الوحيد في مدينة أصيب أهلها كلهم بالجنون أن يكون مجنونا. وحين يكون المرء مبصرا في مدينة أصيب أهلها بالعمى، فإنه لا يرى قيمة لنعمة البصر.
لنتخيل جحيم البقاء في طائرة تستغرق رحلتها أكثر من ثلاث ساعات. فالطائرة بالمواصفات الجديدة هي مكان مغلق لا يمكن للبشر فيه أن يتأكدوا من شروط الصحة من خلال التباعد، فإن البقاء فيها سيقود الكثيرين إلى الجنون تعبيرا عن الخوف من الإصابة بالفايروس. وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى أن يحذف بشر كثيرون فقرة السفر من أجندة حياتهم.
سيكون العالم صغيرا، لكن بطريقة افتراضية.
ولكن هل سيسلمنا هلع الخوف من الموت إلى موت نمارسه ونحن نفاخر ببقائنا أحياء؟ بهذا المعنى ستكون عودتنا إلى الحياة اختبارا أشد قسوة من الموت.