محمد أبوالفضل يكتب:
مشعل.. عين على الخرطوم وأخرى على حماس
يعتقد رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس خالد مشعل، أنه لا يزال الدينامو الذي يحدد بوصلة الحركة، والحاكم بأمره الذي يرسم لها الخطوط الحمراء التي تتوقف عندها، والخضراء التي يجب أن تعبر من خلالها. ويصر على الإيحاء بأنه لا يزال يفرض هيمنته عليها. فرغم ابتعاده عن القيادة منذ ثلاث سنوات واختيار إسماعيل هنية خليفة له، إلا أن الرجل يحلو له التدخل في كثير من القضايا التي تندرج في صميم عمل رئيسها المباشر.
آخر تجليات ممارسة مشعل لهوايته، قيامه بتوجيه رسالة ملتبسة إلى الخرطوم، بثتها صفحة حزب المؤتمر الشعبي على فيسبوك مساء الجمعة، قال فيها “رسالتي للنظام السوداني، أنت حر في سياستك الداخلية والخارجية، ونحن لا نملي على أحد شيئًا، التطبيع مع إسرائيل من حيث البعد المصلحي سراب زائف”، وفي الوقت ذاته أعرب عن جاهزية حماس لتطوير العلاقة مع الخرطوم دون تدخل في شؤونه الداخلية أو شؤون أي دولة عربية.
تزامنت الرسالة مع اتصال هاتفي تلقاه رئيس مجلس السيادة بالسودان، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، من رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، هنأه فيها بحلول عيد الفطر المبارك، وهو اتصال يؤكد أن الخط السياسي بين تل أبيب والخرطوم لا يزال مفتوحا، منذ أن دبت فيه الحرارة مع لقاء البرهان- نتنياهو في عنتيبي بأوغندا، في 3 فبراير الماضي.
لم يتم الإعلان عن تحركات جديدة بين الطرفين، من جهة تطوير العلاقات المشتركة، أو من جهة القضايا التي بات حلها رهنا بالدفء بينهما، وفي مقدمتها رفع اسم السودان من على اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، ما يشير إلى أن التفاؤل الذي ساد بموجب اللقاء هو تفاؤل دعائي، لم يصطحب معه تطورات عملية تحمل عناوين إيجابية، وأن السلطة الانتقالية لديها حسابات وخارطة طريق وليست بحاجة إلى نصائح مشعل ورفاقه.
يبدو أن مشعل أراد الدخول على حقل شيطنة السودان، وتحريك المياه الراكدة باتجاهه، ولفت الأنظار إلى ما يقوم به أكثر من غيره، أو بدلا من التفرغ للحديث عن علاقات قطر بإسرائيل وما يدور في الخفاء بينهما من صفقات، والتوقف عند الانتهاكات التركية الواسعة في ليبيا، وما تنطوي عليه من إشارات تحمل تهديدات لدول الجوار، بما فيها السودان.
جاءت أيضا رسالته للقيادة السودانية وسط ضجيج يقوم به حلفاؤه في التنظيم الدولي للإخوان للتشويش على الخرطوم التي تقوم بجهود حثيثة لمحاصرة النظام السابق وتقويض الحركة الإسلامية، وإعادة رمي بعض كرات اللهب من قبيل التطبيع للضغط على مجلس السيادة الذي ينوي زيادة نطاق الاستهداف للعناصر المتشددة الفترة المقبلة، فتوزيع الاتهامات والنصائح يصبان في خندق واحد. خندق محاصرة السلطة الانتقالية وإحراجها سياسيا أمام المواطنين، وتقوية شوكة الثورة المضادة التي يقودها فلول الرئيس السابق عمر البشير.
تكلم مشعل بطريقة ملتوية تحمل تفسيرات متناقضة، فقد نصح السودان بأنه لن يحصل سوى على قبض الريح، ثم أردف أنه لا يملي شيئا على أحد. لكن البوابة التي بثت كلامه، وهي حزب المؤتمر الشعبي، فضحت الهدف منه، فالحزب معروف بتوجهاته الإسلامية، ويكفي أن الراحل حسن الترابي مؤسسه، وتتعرض قيادات فيه لمطاردات ومصادرات من لجنة إزالة التمكين ومكافحة الفساد، وتحاول كوادره إزعاج السلطة الانتقالية وروافدها الأمنية.
في الرسالة، نفى مشعل وجود علاقة للحركة مع الخرطوم حاليا، بما يشي بأن التوجهات تسير في طريقين متقابلين أو على غير هوى حماس، وكأنه يلـمح إلى أن عودة العلاقات مرتبطة بعدم تطويرها مع إسرائيل، وأن التواصل سوف يظل مستمرا مع القوى الإسلامية السودانية فقط، متناسيا أن أغلب تحركات حماس السياسية تدور في العواصم التي تملك علاقات جيدة مع إسرائيل، وهي أنقرة والدوحة وعمّان والقاهرة، وبصرف النظر عن التفاوت بين كل منها، فحماس لم تتخذ من العلاقة مع إسرائيل سببا للإقدام أو الإحجام.
حدث جدل بشأن الفوائد التي يمكن أن يجنيها السودان من التطبيع، ووضعت سلطته النقاط على الحروف في حينه، وقدمت كشف حساب معلن للمواطنين، وتم تجاوز الموقف بكل تعقيداته السياسية من دون حدوث هزات، لكن مشعل ينتهز الفرصة لإعادة الكّرة مرة ثانية لتحريك الملف ليتصدر الواجهة، مرتديا ثوب الواعظ والحكيم والأمين مع غيره، متجاهلا أن هذه الصفات لو طبقها على نفسه لما وصلت القضية الفلسطينية إلى هذا المنحدر.
يكشف الربط أيضا طبيعة المكونات السياسية التي تحملها رسالة مشعل، حيث يريد التأكيد أنه لاعب مؤثر في التنظيم الدولي للإخوان، يمكنه توجيه الضربات بدقة، فهو يبرر أن حركة حماس التي تعتزم التفاوض حول صفقة لتبادل الأسرى مع إسرائيل لن تذهب أبعد من ذلك، في إشارة لنفي الدخول في مفاوضات أخرى تتعلق بصفقة القرن من أبوابها المشّرعة، وما فهم من أنه غزل من قبل الحركة لم يتمخض عن شيء حقيقي، ناهيك عن عدم التخلي عن سلاح المقاومة، حيث يتمنى أن تكون قيادته المنتظرة شاملة للجانبين السياسي والعسكري.
بكلام آخر، لا ينسى خالد مشعل شغفه بالعودة إلى الجلوس على مقعد قيادة الحركة قريبا، فالتصريحات التي تنطوي على توجيه سياسي لدفتها لا تخرج عن كونها تمهيدا للقبض على السلطة بعد التخلص من هنية الذي بدأ جولة ممتدة، قادته إلى كل من قطر وتركيا وإيران وماليزيا، لضمان ولاء المكاتب الخارجية له عندما يحين الانتهاء من ترتيب الانتخابات على قيادة الحركة، والتي تتسم مقدماتها بالشد والجذب بين فريقي مشعل وهنية.
وضع القائد السابق للحركة عينا على السودان باعتبارها الأرض الرخوة التي يمكن أن تستوعب حديثا مسهبا مفيدا في حالتي الإهمال والمجاراة. فالأولى تعزز مكانته في صفوف أنصاره للدرجة التي يصعب معها الرد عليه، والثانية (المجاراة) تمنحه فرصة للأخذ والرد والعودة إلى الأضواء، وتسحب معها نقاشا متجددا حول التطبيع يمكن أن يحرج السودان، ويضطره إلى تقديم تنازلات في ملف التعامل مع الإسلاميين كي تهدأ الحملة التي تستهدف الخرطوم في توقيت لا تملك رفاهية الانشغال بمشكلات جانبية تبعدها عن الأزمات الداخلية.
يحقق وضع العين الأخرى لمشعل على حماس نوعا من الحضور المطلوب، ويعيده إلى دور المرشد الفقيه الذي يتلذذ به، أو الظل لزعيم حزب الله اللبناني حسن نصرالله، من حيث محاولة الجمع بين الرطان السياسي والعسكري والديني بأبعاده المتشابكة التي يتفنن فيها نصرالله لضمان فرض هيمنته، الأمر الذي يتمنى مشعل تكراره، مصحوبا بانتهازية أعلى ربما تمكنه من توسيع نطاق الحوارات مع أطراف إقليمية ودولية مختلفة.