فاروق يوسف يكتب:

العام المقبل في القدس!

عنوان المقال بعلامة تعجّبه مقتبس من إحدى صحف “المقاومة”. هي جملة مستفزة إيجابا وسلبا. نتمنى طبعا أن نكون في القدس، ولكن الأمنيات العزيزة لا تُسوّق كما لو أنها هواء ولا تصلح بضاعة للترويج غير المسؤول وبالأخص إذا كانت تتعلق بالمصائر. والقدس مسألة مصيرية. إن قبلنا التلاعب بها بتلك الطريقة المجانية، فنحن نشاطر المحتالين حيلهم التي يعتبروننا من خلال تمريرها علينا بلهاء، نستحق ما جرى لنا.

والذي جرى ويجري لنا هو أكثر جنونا من أن يصدقه عاقل.

لقد شطبت مدن أساسية في العالم العربي من الخارطة السياسية، وفقدت شعوب قدرتها على تصريف شؤونها بما ينسجم مع ثرواتها التي نُهبت، واستسلمت نخب ثقافية لمشيئة الرعاع وقطاع الطرق واللصوص المسلحين الذين رفعوا شعارات التحرير، وهم يقصدون تكريس الاحتلال الذي تجاوز الأرض إلى اللغة والعقل والعاطفة فبدت القدس قياسا لما جرى لأخواتها مدينة محظوظة لأنها أرض محتلة فقط.

أما بغداد وبيروت ودمشق فإنها تعيش تعاسة حظها الذي جعل منها مدنا لا عقل ولا عاطفة ولا لغة حوار فيها.

نتمنى استعادة القدس اليوم وليس غدا. ولكن كيف؟ ومَن سيمشي بنا إليها؟ بأي إنسان وأي مجتمع؟

من المؤكد أن تصريف الأمنيات لا يتم من خلال رهائن فقدوا حرية الاختيار وإرادة صنع المصير والقدرة على استثمار ثرواتهم بما ينفع العلم ويساهم في تطوير الوجود البشري.

سيكون محرجا بناء على تلك المعطيات القول إن القدس لن تُستعاد لا في العام المقبل ولا في الأعوام العشرة المقبلة ولا في زمن منظور. تسويق تلك الكذبة هو جريمة في حق العقل. أقصد ما تبقى منه. فالوضع العام في العالم العربي يُرثى له وهو لا يُقاس بأي مرحلة سابقة، يوم لم تكن دول عربية بكاملها قد هُشمت وصارت تأكل نفسها بنفسها.

وليس المطلوب هنا الدخول في تفاصيل تلك الرثاثة التي صار من أهم مظاهرها سيطرة الميليشيات المسلحة على الشارع وعلى العقل. وليست صدفة أن تتخذ تلك الميليشيات من تحرير القدس شعارا لها. فهو شعار مضلل، يمكن أن تصنع منه تلك الميليشيات ستارا تمارس من وراءه عملياتها غير القانونية في نهب ثروات البلاد والاتجار بالمخدرات وممارسة السطو المنظم من خلال فرض الرشى والإتاوات.

تحارب تلك الميليشيات الناس في أرزاقها باسم تحرير القدس. وتلك جريمة لا تتعلق بفكرة التحرير الملفقة مباشرة، بقدر ما تمس الشعور الوطني وتجرحه حين تصنع من القدس عَقَبة في طريق الحياة العادية. في الوقت الذي يعرف الجميع أن القدس بعيدة مثل كوكب، ولن يصل إليها قاطع طريق لا يملك سوى أن يغلق الطريق ويحرم المدنيين من ممارسة حياتهم.

حزب الله يتاجر بالقدس من خلال شعاره “العام القادم في القدس”، فهل ستربح القدس شيئا حين تثق به؟

لقد أفلس لبنان بسبب عمليات الفساد المالي التي مارسها حزب الله عبر السنوات الماضية. وهو اليوم إذ يرفع شعار “القدس في العام القادم” فإنه يقتدي بسيده النظام الإيراني الذي حرص منذ أيامه الأولى على أن تكون كربلاء العراقية طريقه إلى القدس. من غير كربلاء لن يكون هناك وجود للقدس. بمعنى أن القدس لن تتحرر إلا إذا صار لسان العراق فارسيا.

في تلك الحالة سيكون مؤلما أن يقول المرء إن القدس استعملت باعتبارها كذبة.

في الواقع لقد كذبت التنظيمات الإسلاموية، وفي مقدمتها حزب الله وحركة حماس، على الناس حين استعملت القدس في شعاراتها المضللة. القدس بالنسبة لتلك التنظيمات مجرد بضاعة من النوع الذي لا يُمسّ.

إن فكّرَ أحد في أن يمسها فإنه يرتكب جرما عظيما. ولكنها كذبة لن تقاوم الزمن.

لن يجرؤ حزب الله على قتل إسرائيلي واحد فكيف يتمكن من الوصول إلى القدس؟

إذا كان الأمر يتعلق بوعد إلهي، وحده حسن نصرالله المقصود به، فإن ذلك ما لا يمكن مناقشته. أما إذا تعلق الأمر بمعطيات واقعية فإن القدس ستظل محتلة ما لم تسبقها بغداد وبيروت ودمشق إلى الحرية.

إن تحرير القدس لا تنجزه إلا أمة قادرة على صنع مصيرها. أما أن يتكفل بذلك الإنجاز مرتزقة إيران وعملاؤها الذين هم من أكثر نفايات تلك الأمة رثاثة وانحطاطا، فذلك نوع من الضحك على الحقيقة.

هناك حيلة مخابراتية اسمها صناعة الأمل، الغرض منها رفع المعنويات ولكن من المؤكد أن تلك الحيلة سترتد على أصحابها حين تفتري على الحقيقة. وهو ما يصلح لوصف كذبة حزب الله التي تستعمل المدينة المقدسة في سخرية جارحة.