محمد أبوالفضل يكتب:
حرب البيانات والشائعات تزداد على مصر
لا يخلو نظام حاكم في أي دولة، كبيرة أم صغيرة، متقدمة أم متخلفة، ديمقراطية أم دكتاتورية، من استهداف داخلي وخارجي، تتفاوت الدرجات والأسباب والأهداف والنتائج، لكن في النهاية أصبحت الظاهرة قاسما مشتركا في حالات كثيرة. وتتوقف طريقة التعامل الرسمي معها على المعطيات المتوافرة بشأن حدود القوة في الرد المنطقي والشفاف، ومساحة الحرية التي تمنح كل طرف قدرة على استخدام مفردات تدحض الاستهداف أو تعززه.
تتعرض الدولة المصرية لحملة شرسة، تتداخل فيها المعلومات مع الشائعات، والبيانات الصحيحة مع المغلوطة. نجحت مؤسساتها في تخطي بعضها وأخفقت في البعض الآخر.
الخطورة أنها لم تعد قاصرة على قضايا محلية تقليدية، من قبيل الحملات التي تشنها عادة جماعة الإخوان، وحليفتاها تركيا وقطر وبعض المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان لتشويه صورة السلطة الحاكمة، مستفيدين من بعض الأحداث التي تمكنهم من إحراجها أمام الرأي العام في ملف مثل الحريات العامة، بل تجاوزت ذلك إلى تصيد الأخطاء والهفوات.
تنفخ هذه الجهات في النار وتلحق الأذى السياسي بالحكومة، والأخيرة لا تملك الأدوات الفاعلة التي تمكنها من إطفائها سريعا، بينما تجد الأولى بيئة محلية خصبة لتقبل ما تبثه من أخبار، بصرف النظر عن مصداقيتها، ما يشجعها على التمادي في منهجها، وكلما أعيتها الحيل أو فشلت في تحقيق أهدافها قامت باختلاق أحداث وتضخيم مواقف بسيطة حتى تتحول إلى كرة ثلج تكبر، ولا أحد يعرف بالضبط منبعها، وكيف يتم وقف نموها والحد من تأثيراتها.
ركز النظام المصري على تكسير العظام السياسية والمسلحة لجماعة الإخوان، وهدم جدران الميليشيات الإلكترونية التي تعتمد عليها الجماعة، وحقق جزءا كبيرا من غاياته، لجهة فضح ألاعيبها وتوجيه لكمات سياسية وإعلامية مؤثرة لشخصيات يتم الاعتماد عليها، وفقد غالبيتهم جانبا من حضورهم المعنوي في الشارع، فلم تعد الوجوه التي تطل عبر فضائيات ومواقع تواصل اجتماعي وأغراضها معروفة تملك توجيه الرأي العام.
خفتَ حضور هؤلاء في الملفات المعتادة، لكن لم يخفت حضورهم في ملفات أخرى غير مطروقة بقوة، حيث نشطت المناوشات التي تريد النيل من النظام المصري باستخدام قضايا تهم دولا، في صورة هجوم متعدد الطلقات السياسية يصب في مربع يرمي إلى التقليل من القيمة الحضارية للدولة، والتشويش على السلطة والادعاء بتدخلها في شؤون دول أخرى.
برزت الكويت كحالة صارخة خلال الأيام الماضية، حيث ارتفعت الأصوات التي تتهكم على تصرفات العمالة المصرية في الكويت، وتجرأ البعض على سب الدولة والنظام الحاكم في القاهرة بلا مبرر منطقي، الأمر الذي دفع البعض للرد عليها.
احتدمت المعارك الكلامية من الجانبين، وتلقفتها وسائل إعلام مختلفة، ووصل الموقف إلى مستوى الأزمة، حيث دخلت على الخط شخصيات مع وأخرى ضد، وصعدت المسألة إلى الحافة، وإذا لم تتمكن القيادة الحكيمة في البلدين من احتواء الموقف سوف تتولد عنها خسائر باهظة وترخي بظلالها على الطرفين.
يمكن فك شفرة التركيز على الكويت، وليس قطر مثلا، بالعودة إلى العلاقة الوطيدة التي تربط البلدين، وارتفاع مستوى التعاون الأمني بينهما في ملف الإخوان، وقيام الكويت بالقبض على خلايا تابعة للجماعة وتسليم عدد من الشخصيات المطلوبة أمنيا في مصر مؤخرا.
قد يكون هذا هو الجزء الغاطس في الحملة التي تركز على العمالة المصرية بالكويت، كي تضطر الحكومة هناك للتخلي عن مئات الآلاف منهم وسط الأزمات التي فجرها كورونا، بالتالي تصدير مشكلة اقتصادية حادة للقاهرة، أو وقف تدفق المعلومات الموثقة حول الخلايا الإرهابية في الكويت، والمطالبة بتسليم المتورطين في أعمال عنف وقعت بمصر.
تتصدى القاهرة لهذه الحملة بالإهمال الرسمي، والتفاعل الشعبي الذي يزداد سخونة كل يوم، وتستخدم فيه ألفاظ نابية تضر بالمصالح الأزلية للبلدين، حيث وصل التراشق مدى يمكن أن يفجر الكثير من الأزمات التي قد يصعب تطويقها، خاصة أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ساحة رحبة يتم فيها النزال بلا ضوابط أو تعقل.
تتراكم الضربات، حتى وصلت إلى السودان، فهناك قطاعات مختلفة تحمّل القاهرة مسؤولية الإخفاقات السياسية التي تحدث في الخرطوم، مع أن مصر رفعت يديها منذ زمن عن السودان، وتدرك طبيعة الحساسية التاريخية معه، وباتت القاهرة كأنها قاسم مشترك أعظم في معظم المشكلات الخفية التي تعاني منها السلطة الانتقالية، ما يبعد الأضواء عما تقوم به الحركة الإسلامية وذيولها الإخوانية في البلاد من جهود مستمرة لتفشيل الثورة السودانية.
أضف إلى ذلك، الحملة التي تشنها جهات ليبية على مصر، بذريعة أنها تتدخل في شؤون بلدهم، وتدعم قائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر، ولم تنكر القاهرة دعم جميع المؤسسات الوطنية ورفض تحالف الإرهابيين، وتنادي دوما بالبحث عن تسوية سياسية تضمن أمن ووحدة البلاد، وترفض ما تقوم به تركيا من انتهاكات عسكرية سافرة، ولم تعلن نيتها التدخل عسكريا في ليبيا، طالما لم يتم تهديد الأمن القومي بصورة مباشرة.
تصب الحملات الليبية الملتهبة في خندق الردع المعنوي المسبق، وتمكين الجماعات المتشددة من تكريس نفوذها، وتستفيد من ذلك بالطبع جماعة الإخوان التي يبدو أنها تكتفي بالعمل من وراء ستار، حيث تدفع بعض الوجوه غير المعروفة بالانتماء إليها، وتحرضها على تكثيف الانتقادات للقاهرة، وسط حملة منظمة من البيانات المبتورة لإثارة الغضب ضد أي خطوة يمكن أن تقوم بها مصر، حتى لو كانت في صالح الشعب الليبي.
انتقلت اللعبة إلى إثيوبيا أخيرا، وتقوم الكثير من وسائل الإعلام التابعة لها بتحريض مباشر ضد القاهرة، يعتمد على خلط الأوراق، وتشويه الحقائق، ونقل معلومات تصب في خندق شيطنة الإدارة المصرية بزعم أنها لا تريد لنظيرتها الإثيوبية السلام والتنمية.
أصبحت هذه هي اللغة التي يتم استخدامها عند التوجه إلى الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، كي يتم تحطيم الأسطورة المصرية التي تعتمد على المناداة بتحقيق العدالة في توزيع حصص المياه في دول حوض النيل، ورفض عمل سد النهضة بدون اتفاقيات واضحة.
أفلحت هذه الحملات في تحقيق جزء كبير من أهدافها، لأن القاهرة لم تنتبه إليها مبكرا، وتركتها على طريقة “خليهم يتسلوا” التي اتبعها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في تعامله مع شباب ثورة يناير حتى أسقطوا حكمه خلال 18 يوما من الاعتصام بميدان التحرير، ولم تدرك الحكومة أن هذا النوع من التسلية مصيري، وينطوي على أهداف إستراتيجية، وله تداعيات تؤثر على التوجهات السياسية لاحقا.
ساعد انغلاق الفضاء الإعلامي وضيق الحركة السياسية أمام الأحزاب المصرية على عدم مواجهة طوفان من اللغط يرمي للنيل من الدولة، وصبرت الحكومات المتعاقبة كثيرا على الانتقادات التي تعرضت لها في بعض الملفات الإقليمية، بحجة أنها لا تريد الانسياق وراء تحركات تعلم أنها تحتوي على أغراض مشبوهة، وثمة قدرة على حلها بالحوارات الثنائية.
ازدادت الحملات ضراوة على مصر، وتبدو الآن إدارتها السياسية في مفترق طرق، فإما أن تهمل البيانات والشائعات التي تريد تقويضها، أو تفتح المجال للإصلاح وتتحمل القوى الوطنية مسؤولية الرد، لأن الانتقادات التي تتعرض لها القاهرة محصورة في النطاق الشعبي.